فيس بوك 20 مارس 2023
الألوان بالنسبة للرسام عنوان ووطن ، فمن خلالها نتعرف عليه وهو يتغنى ويحلق فى فضاء لوحاته، وقد يقيم فيها إقامة دائمة لا يبرحها طوال سنوات عمره الفنى ؛ ففيها سكن روحه وعشقه وثورته، أو عزفه وآهته، لكن الفنان بلال مقلد – العائد بعد غياب طويل بمعرض جديد يقام حاليا بقاعة الباب بالأوبرا – يجد نفسه فى اللون الأسود وحده إلا قليلا ، ومع ذلك يحقق به كل تلك الحالات، فيجعل منه وحده الناى الذى يعزف عليه ألحانه فى شتى حالاته وعواطفه : من الرحيل إلى الحنين، ومن مد الجذور الضاربة فى التربة إلى مد الجسور بينه وبين الغد، حيث نرى نماء الشجرة نحو السماء وهى تنشر فروعها وأوراقها الكثيفة، ونرى كيف يدفعه الشغف لاكتشاف عالم جديد إلى التطلع – خوفا – نحو المجهول ، أو الوقوف – انتظارا – أمام الأبواب الموصدة، وبين هذه الرؤى درجات من المشاعر والمعانى، تتصاعد من السفح إلى القمة، ونستشعر تصاعد نسغ العصارة فى جذع النخلة أو الشجرة وهى تنمو وتتعالى سيقانها وأغصانها وسعفاتها بتدرجات خطية دقيقة ، تتراوح بين الغلظة والنحافة، باستخدام التهشير بالسنون الرهيفة البيضاء على السطح الأسود (بتقنية الحفر الغائر العكسى) فى نفس اللوح الخشبى أو الزنكى ، فيبدو ذلك كتعاقب الليل والنهار وشقشقة النور من جنح الظلام، وكاهتزاز الأغصان والأوراق عند مرور الهواء، فى حركة بصرية متذبذبة لا تهدأ، بين الأبيض والأسود ، وبين جرة قلم ناعمة وجرة ريشة خشنة، أو بين شكل هندسى لمربع أو مثلث أو مستطيل رُسِم بخطوط مستقيمة صارمة، تشكل بيتا ونوافذ وأبوابا وأسوارا وبلاطات أرضية، أو زجزاجا بمثلثات متتابعة.. وقد تأخذه المنحنيات القوسية إلى أشكال دائرية أو بيضاوية، تشكل فى النهاية شموسا وأقمارا، أو رؤوسا لأشخاص، أو قوارب وأشجارا، أو طيورا وأسماكا، أو سنابل وأزهارا، أو حتى أشكالا زخرفية مجردة…كل هذا التنوع الخطى والملمسى يبدو كتلوين بتخانات متعددة لخطوط سوداء، تستخدم فيها جرٌَات السنون الأفقية والرأسية والمائلة والشبكية ألمتقاطعة، وهى عملية معقدة فوق مساحة ممتدة، والفنان يستخدم فيها تقنية التهشير بالسنون الدقيقة كما سبق الإشارة، دون الاستعانة بدرجات وسيطة من اللون الرمادى لملء المساحات بين الأبيض والأسود ، فيما يجعلنا نتوهم وجود هذه الرماديات، لكنه يسمح – أحيانا – برشح درجات خفيفة كالبصمة المائية لبعض الألوان كالبرتقالى والأحمر والأزرق وسط المساحات السوداء المعتمة.
وقد تصبح المسألة سهلة لو نُفِذت بالرسم المباشر فوق سطوح الورق ، لكن الأمر يختلف حين يتم الرسم بالحفر الغائر فوق سطح خشبى (وود كَت)بسنون معدنية مختلفة الثخانات، او فوق لوح زنكى بالإبر الرفيعة المعدة للرسم الطباعى عبر آلة الطباعة الخاصة بالحفر، او بالرسم المباشر بالقلم الرصاص فوق أحجار الليتوجراف للطبع من خلال الآلة الخاصة بذلك، فتنقل إلينا على الورق تأثير خطوط القلم الرصاص كما وضعها الرسام…إن كل نوع من هذه الأنواع الطباعية يتطلب جهدا وصبرا ووقتا، وهذه العمليات المعقدة التى يترتب عليها الحصول على عدة نسخ من الطبعة اليدوية الواحدة وتُوقٌَع بيد الفنان كأصول مرقٌَمة، لا تقاس بالرسم المباشر على الورق، ويتوقف نجاحها على خبرات طويلة متراكمة، وقد راكمها الفنان بلال عبر سنوات ممتدة خلال دراسته الأكاديمية العليا بجامعة نيويورك (كلية بافالو) خلال عامى١٩٩١- ١٩٩٢، قبل أن يستكملها فى مصر بدراسة للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة حلوان (كلية التربية الفنية) عام ١٩٩٤، ليحصل لاحقا على درجة الأستاذيةللتدريس بنفس الكلية.
ويرسم الفنان بإيقاعات موسيقية، هندسية حينا وعضوية حينا آخر، مستخدما زخٌَات من الخطوط فى زُرافات مجمٌَعة تتجه بميول موحدة يمينا أو شمالا أو إلى فوق أو إلى تحت، بما يحدث ترديدا بصريا متذبذبا بين هذه الاتجاهات، أو تقابلا متعارضا أحيانا، أو متداخلا أحيانا أخرى، موحيا بنوع من الحركية الإيقاعية أو الهارمونية او التقابلية المتعارضة (كونتر بوينت) بلغة الموسيقى، ومن شأن ذلك كله أن يحيل اللوحة إلى بناء مركٌَب ومتعدد المستويات، ويمكن ، إذا شاء الفنان ، تفكيك اللوحة الواحدة إلى عدة لوحات، نظرا لكثافة العناصر الهندسية والعضوية والإيقاعية التى تجمع بينها فى عمل واحد.
إن بلال مقلد من نوع الفنانين الذين لا يكتفون بأن مهمة اللوحة تقتصر على الجمال لذاته، ومن ثم يعتبر هذا النوع أن (لغة الشكل) هى قدس أقداسه، بعيدا عن أن تحمل معنى خارج هذه اللغة، بل إنه – على العكس – يعتبر اللوحة عالما متكاملا يجمع المتعة الجمالية والرسالة المعنوية، لكنه فى هذه الرسالة يجمع بين معنيين متعارضين هما: الرحيل والنماء ؛ فالرحيل فراق ، والنماء انتماء، بمعنى الغوص فى الأرض والبحث عن الجذور، لكن ربما كان يجمع بين النقيضين معنى ثالث نجده يتجلى فى عدد من لوحاته؛ وهو أن أشخاصه الذين يعطوننا ظهورهم دائما ليسوا راحلين، بل هم يتطلعون إلى الغد، انتظارا لمستقبل واعد، لكن من الغريب أن يبدو هؤلاء الأشخاص ، وهم كثيرون متفرقون بين شتى لوحاته ، أشباحا غامضة دون تفاصيل ، وقد يكون الفنان بحاجة إلى تصحيح نسبهم التشريحية فى رسمهم مستقبلا، لكنه ينتقل إلى الوضوح المباشر فى لوحة “آثار الأقدام”وهى متجهة نحو الدائرة الكبيرة المجنحة عند الأفق، وهنا نجد “الفكرة” طاغية على البناء الفنى للوحة ، وتبدو أقرب إلى “البوستر” أو إلى الرسالة الدعائية الموجهة..وذلك يُحسَب عليه لا له ، فالرسالة الموجهة بشكل مباشر تعتبر العدو الأول للفن.


 
								