الدمشقي والقروية

 

 

عزالدين نجيب
أغسطس 1998
رأينا فى الحلقة السابقة كيف التقى نهرا بردى والنيل، من خلال التقاء الفنان السوري نذير نبعة، والفنانة المصرية شلبية إبراهيم.. جمعهما الحب والإبداع، ووحدهما الرباط المقدس بالقاهرة، وازداد هذا الرباط متانة على مر السنين، بين دمشق والقاهرة وباريس، بإيمان كل منهما بالآخر، وبالولد والبنت اللطيفين اللذين رزقا بهما، فكانا بقصتهما الفريدة تجسيدا لرابطة حب أكبر بين شعبين!
ومع اختلاف الرؤى والأساليب الفنية بينهما، وعلى الرغم من استقلال كل منهما عن الآخر، فإنهما يكملان بعضهما بعضا، نذير يعمل أستاذا للرسم بكلية الفنون الجميلة بدمشق، وشلبية تتفرغ لرعاية الأولاد وشئون مملكتها الصغيرة، وبعد أن يفرغ كل منهما من واجباته اليومية يدخل مرسمه الخاص.
مرسم نذير حجرة صغيرة منعزلة لا يقتحمها عليه أحد، ومرسم شلبية شرفة كبيرة مفتوحة على سطح البيت، وحول السور حديقة صغيرة تتضوع بروائح الريحان والياسمين، وتستقبل فيها – في الصباح والأصيل – أصدقاءها من الطيور التي لا صاحب ولا عائل لها، من الحمام واليمام والعصافير، إنهم يأتون في مواعيد محددة، يأكلون من يديها، ويشربون من إنائها، ويتحدثون إليها بلغة تفهمها، ويحطون على كتفيها ويقبلونها، فتغني لهم أغنيتها المصرية القديمة: “طاير يا حمام.. مرسال الغرام.. إدي الشوق لخلي.. وابعت له السلام” !!
وفي المساء يلتقي الزوجان حول لوحة جديدة أتمها أحدهما، ويتناقشان حولها، وقد يكتفيان بلغة الصمت، التي قد تكون أبلغ من الكلام، وفي كلا الحالتين تغمرهما السعادة، وكأنهما أنجبا طفلا جديدا.. أليست اللوحة مولودا؟
فماذا عن عالم كل منهما، وعن أسلوبه الفني؟
نذير يبني ويشيد.. وشلبية تغزل وتطرز.
نذير يكتل ويرسخ.. وشلبية تهمس وترقق.
نذير يصدح بأناشيد القوة، بألوان قاتمة ذات رهبة، وخطوط راسخة ذات أبهة، فتكاد تسمع في لوحاته صوت “كورس” رجالي، مهيبا وغامضا، يأتي من أعماق التاريخ أو الأسطورة، يحكي صراع الخير ضد الشر، الجمال ضد القبح، المقاومة ضد الاحتلال.. كما يحكي توافق الإرادة مع العذوبة، الوجوه
الإنسانية مع الأشياء المنزلية، السجادة الشرقية ذات الزخارف المنمنمة مع المصباح القديم المضاء بالغاز، قوقعة البحر أم التلافيف مع ساعة الإيقاظ أم الأجراس، الغجرية ذات الأقراط والخلاخيل والدلايات وهي تتحدى بعينيها الجريئتين، مع الريفية ذات الفستان المطرز والبسمة الخجول.
أما شلبية.. فهي تدندن بأغاني الحب، بألوان شفيفة ذات بهجة، وخطوط ناعمة ذات رقة، فتكاد تسمع في لوحاتها صوت هديل اليمامة وتسبيح الهدهد وزقزقة العصفور وصهيل الحصان ومناجاة الحبيبين، لاصراع في لوحاتها ولا صياح، بل همسات عذبة متناغمة، لكائنات من عالم الأحلام، وشلبية لا تذهب إلى كائناتها ولا تبحث عنها، فهم يأتون إليها بأنفسهم، يلتفون حولها أفرادا وجماعات، يغنون لها ويمرحون، يطيرون ويحطون، يسبحون في الهواء ويسابقون الريح، يرقصون مع القمر ويداعبون عناقيد البرقوق والرمان، أجنحة طيورها مخضبة بالحناء وملونة بألوان الطاووس، ترفرف في براءة كالملائكة، وعيون خيولها “المعجبانية” كعيون النساء الغزلانية، أو عين حورس المصرية، وشعور فتياتها كجدائل الجنيات تتطاير في الريح أو بأعماق البحر، وقمرها الهلالي رفيق الأحبة والأطفال، يحكي لهم الحكايات على السرير قبل النوم، بينما هم يتركون كراسي حجرة الجلوس على سطح البيت، لينزل إليها ضيوف قد يأتون من السماء، وفتاتها العذرية تولد من ضوء القمر وتركب السمكة وتمخر بها عباب البحر!
نذير نبعة مهموم بالإنسان، يبحث في تاريخ العرب عن أمجاد العزة والقوة، حتى يجسد لإنسان اليوم المقهور، رمزا يعتز به ويعطيه الأمل في النصر، ويبحث في أساطير تدمر وكنعان وآشور عن خيال صنع الحضارة في الزمان الأول، ليزيح به عن عيوننا، في الزمان الرديء، عتامة الحياة وغلظة الواقع، ويبحث في الأشياء البسيطة، على هامش حياتنا اليومية، عن أنفاس الناس بداخلها، عن سر الحياة في الجماد، ويبحث في المرأة – من الصحراء إلى الحضر- عن سر الخصوبة ولذة العطاء ووعد الحب!
وشلبية إبراهيم تحيا الحياة ولا تفلسفها، تؤدي رسالة المرأة الأبدية، بأن تعطي بغير أسئلة، تحيل المستحيل إلى واقع، تواجه قوى الشر بالغناء، تؤلف بين الكائنات بعد أن تحررها من الخوف، تنزع الشر من داخلها وتحل محله الخير والحب، تطلق العنان للطفل المحبوس داخل الكبار، ليفرح ويلعب ويغني، دون أن ينسى أنه ابن الأرض، وأن عليه إعمارها.
وهكذا يواصل الزوجان الفنانان إبداعهما وعطاءهما، ويؤكدان أن لقاء الحب والموهبة والإيمان.. قادر على صنع المعجزات.
مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »