فيس بوك 5 أبريل 2023
أتابع سلسلة المقالات التى ينشرها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى منذ فترة فى جريدة الأهرام عن الأوضاع الثقافية المتدهورة الآن فى مصر على صعيد المؤسسات الرسمية سواء بوزارة الثقافة أو بالوزارات ذات الصلة بالعمل الثقافى أو ببناء الوعى والعقل الجمعى للأمة، مثل وزارات التعليم والإعلام والتعليم العالى والشباب والأوقاف وغيرها، وهو يلفت النظر إلى غياب الرؤية أو الاستراتيجية التى تحدد الأهداف العليا للعمل الثقافى وآليات تنفيذها ومخصصاتها المالية ، ويرصد فى حملته الصحفية العديد من مظاهر الأزمة الثقافية والتراجع البادى للدور المفترض لهذه الأجهزة فى الارتقاء بالوعى العام للمجتمع بمختلف طبقاته وفئاته حتى الطلبة، وكيف بلغ مستواهم الثقافى بجميع مراحل التعليم أدنى مستوياته، وصولا إلى التدهور الذى لحق بمستوى اللغة العربية، ليس فى المراحل التعليمية فحسب، بل كذلك عبر أقلام الكتاب فيما يُنشر بالقنوات الصحافية والثقافية .
وأود أن أشيد بهذه المبادرة التى يقوم بها شاعرنا الكبير بمفرده فى ظل صمت المثقفين إلا قليلا جدا على الأوضاع الثقافية فى مصر، لإلقائه الضوء بشجاعة على هذه القضية المسكوت عنها، وذلك عبر زاويته الأسبوعية بجريدة الأهرام، مناديا بصدق وحرارة المسؤولين عن الأجهزة المشار إليها، مطالبا بالإجابة عن تساؤلاته المتواصلة عن سبب وصول المستوى الثقافى إلى هذا المنحدر، أو داعيا إياها – على الأقل – لتقديم البيانات والمعلومات التى يمكن الاحتكام اليها لتقييم ما تقوم به من أنشطة أو جهود لملء الفجوة العميقة بينها وبين الجماهير، أو بإعلان ما تضعه من خطط وما تخصصه من إمكانات واعتمادات مالية من ميزانية الدولة لتنفيذها، وعندما يئس من أى استجابة بالرد من إحداها كتب فى آخر مقال له اليوم بالأهرام (٥ ابريل) تحت عنوان (نسأل من؟)محاولا تبرئة المسؤولين الحكوميين عن الأجهزة الثقافية من المسؤولية عن تلك الأوضاع السلبية، مؤكدا أنه لم يقصد توجيه الاتهام إليهم قائلا : “إنها أوضاع ليست بنت اليوم وإنما هى موروثة منذ عقود سبقت، بدأت فيها محدودة فلم يلتفت إليها أحد، وظلت تتسع وتتضاعف حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن.”على حد قوله. وكأنما استشعر أن هؤلاء المسؤولين قد استاءوا مما اعتبروه اتهاما لهم بالتقصير، فأخذ ينفى قصده ذلك، لكنه فى نفس الوقت يتساءل: نسأل من بشأن هذه الأوضاع؟ ، ومن يوافينا بالبيانات المطلوبة حول ما نواجهه من أوضاع ثقافية، مع تقديره “للدور الذى تقوم به وزارة الثقافة فى مختلف المجالات بواسطة مؤسساتها وهيئاتها المسؤولة عن التأليف والترجمة والنشر والعروض المسرحيةوإقامة المعارض وتنظيم المؤتمرات والمهرجانات، وتشجيع الجمهور الواسع على المشاركة فى النشاط الثقافى…إلخ”
وأنا أقدر دوافع الأستاذ حجازى لتقديم شهادة براءة للمسؤولين تجنبا لإغضابهم أو إثارة حفيظتهم ضده بوضعهم موضع الاتهام، وهم فى الحقيقة قد كُلِفوا بمناصبهم على رأس هذه المؤسسات فى ظل الأوضاع السلبية القائمة منذ عقود، ويستوى فى هذا التبرير لأوضاعها مسؤولو الصف الأول مع الوزير.
لكنى أود توضيح أن عدم الاتهام لا يعنى عدم المسؤولية، فإن استمرار أى مسؤول فى منصبه مغمض العينين عن اوضاع غير سليمة فى دائرته لا يعفيه من المسؤولية عن أوضاعها الموروثة، بل إن صمته عنها هو تكريس لها، وطالما اتخذ الشاعر الكبير – باعتباره ضميرا للوطن – موقفا معارضا لأوضاع لا يرضى عنها، فعليه أن يتحلى بالشجاعة ليسمى الأمور بأسمائها بغير مواربة أو تبريرات.
غير أن اختلافى مع رؤيته لا يقف عند حد إعفائه للمسؤولين الحكوميين من المسؤولية، بل يمتد إلى صلب سؤاله لهم طالبا إفادته بالحقائق والمعلومات ، بينما يتعذر عليهم الإجابة بالضرورة، لأنهم لو فعلوا سيدينون أنفسهم بالتقصير، أو – على الأقل – سيتعرضون لموقف حرج أمام رؤسائهم من القيادات العليا، أو مع سياسة الدولة فى تقزيم الرسالة الثقافية، ويتمثل ذلك التقزيم فى عدم وضع الاستراتيجية والخطط والدراسات اللازمة ، وتخصيص الاعتمادات المالية لوضعها موضع التنفيذ . ومن شأن ذلك أن يطرح السؤال الذى طرحه الشاعر فى عنوان مقاله : إذن نسأل من؟
وأجيب أنا على هذا السؤال قائلا أنه يجب أن يعاد توجيهه إلى الاتحادات والجمعيات الثقافية ومجالس النقابات الفنية المنتخبة من المثقفين، لتعليق المسؤولية فى رقابهم لمساءلة الدولة ومطالبتها بالوفاء بمسؤوليتها التى ألزمها بها الدستور بشأن الثقافةوالحقوق الثقافية للشعب المسماة بالعدالة الثقافية، وحول دور الثقافة فى بناء الوعى وإشباع الشعب بالجانب المعنوى لحقوق الإنسان، بالتوازى خطوة بخطوة مع دورها فى تلبية مطالبه المادية وحقوقه المعيشية ومشاريع البنية الأساسية سواء بسواء.
وغنى عن البيان أن التوجه بالسؤال إلى المؤسسات الديمقراطية المنتخبة من المثقفين ليس بغرض مطالبتها بالإجابة التى لا تملكها بالطبع ، بل لمطالبتها بممارسة دورها الرقابى والحقوقى والقيمى فى مساءلة الدولة بكافة أجهزتها التنفيذية والتشريعية والرقابية، فذلك هو الكفيل بخلق تيار مجتمعى وخلق رأى عام قوى للضغط على الدولة لتلبية مطالب الشعب أولا ، ولتلبية مطالب المثقفين والمبدعين ثانيا؛ ذلك أن الدولة تدرك فى الحقيقة مدى ضعف وهشاشة الحركة الثقافية، وتدرك انزواء المثقفين بعيدا ، تجنبا لاتهامهم بالمعاضة لسياسة الدولة واتقاءً لأن يدفعوا ثمن المعارضة، فى ظل أوضاع سياسية يعلمون عواقبها، وهذا الموقف السلبى للمثقفين يرجع إلى عدة عقود مستمرة من الماضى البعيد، باستثناء فترة الربيع الديمقراطى مع ثورتى ٢٥ يناير ٢٠١١ و٣٠ يونية ٢٠١٣ اللتين أعقبهما رد فعل سلبى تبدى فى التشرذم واللامبالاة والمسايرة للأمر الواقع والانغماس فى القضايا الفئوية والشخصية والهامشية، ما أتاح لأجهزة “الدولة العميقة”والدولة الفوقية أيضا..التغوٌُل فى سياستها التى تتجاهل الثقافة وأى نشاط ديمقراطى للمثقفين والمنادين ببناء الإنسان بالثقافة الجادة والقيم العليا.
فإذا لم يتحملوا اليوم مسؤوليتهم التاريخية فى ذلك، وإذا لم يتخذوا موقف المبادرة والمواجهة المنظمة بالقانون من خلال مؤسساتهم النقابية والتمثيلية عنهم، وإذا بقوا على تقوقعهم وانسحابهم وخوفهم على سلامتهم ومصالحهم الذاتية الضيقة ، فلن يحدث أى تغيير فى الأوضاع الثقافية كما يأملون، ولن يكون لمثل حملة الشاعر الكبير حجازى أى جدوى، فتصبح كالنفخ فى قربة مقطوعة، ولن يتلقى على أسئلته الموجهة إلى أجهزة الدولة إلا الصمت العميق، وفى أحسن الفروض سترد عليه تلك الأجهزة ببيانات محبوكة وأرقام موثقة تؤكد أن كل شىء تمام التمام، وتثبت إقامة مئات الندوات الثقافبة كل يوم فى المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة وبجوارها أرقام بمئات الألوف من الحاضرين، فى حين أننا نعرف أن أعدادهم لا تتجاوز خانة العشرات، كما تثبت إقامة مئات الأحداث والمهرجانات الثقافية فى المسارح والمنتديات ودور العرض وقاعات الفنون التشكيليةوورش العمل والسمبوزيومات، وآلاف الكتب التى تصدر كل يوم من هيئات النشر التابعة للدولة فى كل مجالات المعرفة والثقافة والفنون والآداب.
ولا عزاء لأصحاب النوايا الحسنة، ولمن يلتمسون الأعذار للمسؤولين لإعفائهم من المسؤولية عن تردى الأوضاع!