فيس بوك 4 مايو 2022
أن تكون “الزينة” هدف الفن ، هو أمر واقع وضرورة تثبتها الحضارات وخبرة الشعوب عبر المسيرة الإنسانية ، كما ان “العقيدة والقيم والمعانى الإنسانية العليا” هدف وضرورة أيضا لا يقلان أهمية عن هدف الزينة على نفس المسيرة ، وقد تلخص ذلك مقولة أنه لا فن بلا معنى ، ولا يقل عنهما أهمية هدف ثالث ، هو ان الفن ضرورة حياة للإنسان ، يحتاج إليه احتياجه لكل الضرورات المادية والمعنوية ، ولعله أحق الأهداف بالبدء به للارتقاء بالشعوب نحو بلوغ الصحة النفسية والتوازن الروحى والسمو الإنسانى ، وصولا إلى تحقيق التنمية الشاملة اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا بواسطة أو بمساعدة الفن ، كونه بمثابة زرع لقيم الجمال ، وتربيةٍ للنفوس والمشاعر ، وتنميةٍ للحواس العليا وللقدرة على التأمل والاختيار والابتكار والمشاركة لدى الإنسان ، وإذكاء للخيال الذى تُبنى به الحضارات ، وتلك مهمة مستمرة طويلة ومستدامة تنهض بها الدول المتحضرة عبر الأجيال ، بالتوازى مع مشروعات تنمية البنية التحتية فى الاقتصاد والتعمير والتعليم والصحة والشباب والرياضة ، وبالتوازى كذلك مع مشروعات تنمية البنية الفوقية ، من سياسية وديمقراطية وأخلاقية وعدالة اجتماعية .
ولا يعنى هدف الزينه فى الأعمال الفنية أنها فارغة من المعنى ، فالفن (حتى لو كان رسما لباقة من الورد أو منظرا طبيعيا او لوحة تجريدية) يحقق المتعة والبهجة والتوازن النفسى ، وهذا معنى نبيل ، كما لا يعنى التعبير عن معنى فلسفى أو مضمون فكرى او رسالة إنسانية أن يكون العمل مجرد وعاء لحمل فكرة ، أو مجرد وسيلةلإثارة قضية ، بل إنه ، قبل وبعد كل شىء ، عمل فنى بمعايير الجمال لا بمعايير الفكرة أو القضية ، مهما كان نبل مقاصدهما ، ومن هذه المعايير ألا يكون العمل الفنى مباشرا أو تبشيريا أو دعائيا ، والفيصل فى القيمة هو لغة الشكل والبناء الفنى الذى يميز فنانا عن آخر بأسلوبه الذى يخاطب الذوق والمشاعر ، ويضمر المعنى فى بطن العمل الفنى ، بما يسمح لخيال المتلقى أن يشارك فى استنباط هذا المعنى والكشف عنه ، ، لان المباشرة والتبشير والدعائية أعداء ألِدٌَاء للفن ، علما بأنه لا شأن لذلك باتجاهات ومدارس الفن المختلفة ، فلكل اتجاه جمالياته التى تقابلها استعدادات مختلفة لدى المتلقين ، أو وسائل عدة لتنمية ذائقتهم الفنية لتَقَبٌُلِها والاختيار من بينها ما يوافق ذائقتهم وأحاسيسهم.
إضافة إلى ذلك فإنه لا توجد فى الفن ثوابت قيمية ، فهى متغيرة ونسبية شأن كل شىء فى الحياة والفكر والقيم ، وهذا ينطبق على الأساليب الفنية قبل غيرها ، وتلك لا ينبغى ان تظل ثابتة فى تجارب الفنان ، لأن التجريب روح التجديد والابتكار ، كما ان ثبات الأسلوب لا ينبغى ان يتحكم فى ذوق المتلقى أو أن يحصره ويحصر الفنان فى دوائر مغلقة ، بل إن إحدى عوامل الإبداع تكمن فى قدرة الفنان على الخروج على الدوائر المغلقة سواء كانت قديمة أو تقليدية أو حداثية تواكب اتجاهات الحداثة الغربية ، فهو القادر بالتجريب المستمر على خلق حدود جديدة لدائرته الإبداعية الخاصة والمتجددة ، ولو باستلهام البيئة والماضى والتراث ، والفيصل دائما ليس هو الاتجاه أو المدرسة الفنية ، بل هو كيفية ابتكار الفنان لأسلوبه الذاتى ، حتى من داخل الاتجاه أو المدرسة، إضافة إلى قدرته على بناء جسرللتواصل بإبداعه مع ذائقة المجتمع لتقبل إبداعه.
فكيف يبدو الآن حال تلك الدوائر الثلاث لدى شعبنا بنُخَبِه وجماهيره على السواء؟..إنها للأسف تبدو دوائر منفصلة ومنقطعة الصلة عن بعضها البعض ، وتزداد الفجوة اتساعا بين مبدعى الفن والجماهير ، حتى أصبح الفن الجاد شأنا يخص نخبة النخبة من المثقفين والدارسين الأكاديميين للفن ، وقلة من ذوى الاستعداد الفطرى لتذوقه.
وهناك اسباب موضوعية مركبة لهذه القطيعة ، منها النظام التعليمى الذى حذف الفنون بكل أنواعها من مناهجه وأنشطته ، فأهدر رسالةالتربية الفنية المعنية بتنشئة أجيال من المتذوقين والمبدعين للفن ، ليس فى الفنون التشكيلية وحدها ، بل كذلك فى الموسيقى والمسرح والأدب وبقية مجالات الإبداع ، ومن هذه الأسباب أيضا تجاهل الصحافة والقنوات الإعلاميةلأبواب وبرامج الفنون ، ولِنقْل إبداعات الفنانين إلى المشاهدين بأسلوب تربوى يبسٌِطها حتى تصل الى الناس وترتقى بأذواقهم وتنمى شغفهم بمتابعتها ، ومنها اختفاء اللوحات الجدارية من واجهات المشروعات المعمارية والعمرانية، ومن ساحات الحدائق العامة والميادين ، بل اختفائها أصلا من عقلية المخططين والقائمين على تنفيذ هذه المشروعات كما تفعل كل الدول المتحضرة بالاستعانة بكبار فنانيها ، كما كان الحال فى مصر خلال عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى ، ومن هذه الأسباب كذلك – بل على رأسها – تقاعس وزارة الثقافة عن القيام بدورها ومسؤوليتها عن فتح أبواب المتاحف الفنية لأبناء الشعب ، فهى مدارس لتربيته جماليا، بجانب قاعات الفنون التى ينبغى أن تقام فى جميع الأحياء ومدن المحافظات ، وليس فقط فى مساحة الكيلومترين حول دار الأوبرا وحى الزمالك وبعض الأحياء حول وسط العاصمة ، مما حصر دائرة الزيارة لمعارض الفن فى نخبة النخبة من المتذوقين للفن.
إن المخططين العمرانيين لا يدركون أن التنمية الفنية والثقافية هى قاطرة التنمية المستدامة ، لأنها بمثابة الروح التى تدب فى جماد مشروعاتهم ، كونها تتعلق ببناء الوعى وبمحاربة التطرف والإرهاب ، وأنها تصب فى الارتقاء بالنصف الأعلى من الإنسان وليس الانكفاء على إشباع مطالب النصف الأسفل من جسمه وحده ، لو افترضنا جدلا أن إشباع هذا النصف قد تحقق فعلا!!
والمدهش حقا أن تحقيق التنمية الفنية والثقافية لن يكلف الدولة أكثر من ١% مما يتكلفه إنشاء الكبارى والطرق والمدن الجديدة ووسائل المواصلات والمشروعات الخدمية، بل من المفترض أن يكون الفن جزءا عضويا مكملا لبنائها ، فى الوقت الذى يمكن أن يحقق عائدا استثماريا كبيرا على الصعيد القومى بأضعاف ما تحققه مشروعات البنية التحتية ، حيث تنعكس فى تأصيل شعور المواطنين بالانتماء لهويتهم وإلى الاعتزاز بالقيم الوطنية التى تعبر عنها الجداريات والمنحوتات والأعمال الفنية المختلفة تجاه الإنجازات التنموية الجارية ، إذ نراها الآن تتم بمعزل عن تفاعل الشعب معها ، وفى غياب الشعور الشعبى بضرورتها ، بل يشعر الشعب أنها تبنى عل حساب تلبية احتياجاته المعيشية والأساسية كالتعليم والعلاج ، فوق ارتفاع نسبة الفقر.
فهل من آذان تصغى لنداءاتنا التى تكررت حتى بُحٌَت أصواتنا ؟!!