عز الدين نجيب
حقق المثقفون المصريون باعتصامهم بمكتب وزير الثقافة طوال شهر يونيه الماضى شعبية لم يحققوا مثلها على مدى عقود عدة.. كان دافعهم المباشر للاعتصام هو تعيين وزير للثقافة فرضته الحكومة الإخوانية، كانوا على يقين بأنه جاء “لأخونة” الوزارة، ولطمس هوية الشعب، وللقضاء على رسالة الاستنارة التى رفعوا مشاعلها على مر الأجيال، وأنه – فى المقابل – ينتوى إرساء مفاهيم رجعية معادية لحرية الفكر والتعبير، بتحويل المؤسسات الثقافية الراسخة إلى أدوات لتمكين حكم الإخوان، وصياغة عقول مطيعة، مجافية لجوهر الإبداع والتقدم، لكنهم سرعان ما أنتقلوا من ذلك الدافع إلى دافع أكبر، جعلهم يخاطبون الرأى العام من فوق المنصة المقامة فى الطريق وعبر وسائل الإعلام المختلفة؛ وهو إبلاغ رسالة ثقافية تلتحم برسالة ثورة 25 يناير وتتفاعل مع الوعى الجديد الذى اكتسبه المصريون، وتجعل من معنى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية عقيدة راسخة يناضلون مع الشعب لتحقيقها على أرض الواقع.
..وثمة قاسم مشترك من الغناء لاحظنا ترديده أكثر من مرة فى كل ليلة، وهو نشيد (بلادى) وأغنيتا (أحلى البلاد) و(أنا بحبك يا بلادى) وكانت تغنى بصوت جماعى لكن بعذوبة وشجن، ما يعنى أن الحاضرين استشعروا أن كيان “الدولة الوطنية” التى ينتمون إليها بات مهدداً بالتفكيك فى هذه اللحظة التاريخية، وأن عليهم إنقاذها من حكم جماعة لا تؤمن أصلا بالدولة أو بالوطن !
قصر الفترة الزمنية للاعتصام وبساطة الإمكانات المتاحة للتواصل مع الجماهير، كانا مظهر قوة لا ضعف، إذ شهدت تلك الفترة تكثيفاً بالغاً لمضمون الرسالة ولوسائل التعبير عنها وتميزها بالجدة، بهذا استطاعت المنصة أن ترصف جسراً امتد إلى قطاعات من طبقات وشرائح اجتماعية متنوعة، وجدت – لأول مرة – فى رسالة المثقفين تعبيراً مباشراً عنها، فى رفضها للدولة الفاشية المتأسلمة، وفى شوقها إلى العدل والحرية إلى رفع الرأس عالياً، كذلك صححت فى أذهان الجماهير صورة الفن الرفيع التى شوهتها أبواق الاخوان وحلفائهم بمجلس الشورى، وعبر وسائل الإعلام، حتى وصفوها بالفسق والفجور واتهموها بالحص على الرذيلة. كلمات المبدعين والمثقفين – كباراً وشباباً – حملت نغمة جديدة كان يسمعها المواطن العادى لأول مرة، أو جاءت استدعاءً لنغمات عفية من ألحان وكلمات بدءاً من سيد درويش حتى الشيخ إمام لم تزل تهز وجدانه. وجوه المثقفين التى ظهرت على الشاشات والصحف اختلفت عما اعتاده هذا المواطن فى برامج “التوك شو” طوال شهور الثورة وما قبلها، والتى لم تكن تخرج – إلا فيما ندر – عن “حنجوريين” سياسيين، ودعاة دينيين، ومحللين أمنيين وعسكريين ونفسيين، وعن أكاديميين وقانونيين، ومنشقين عن الإخوان والجهاديين، ولا تكاد تُرى بين هؤلاء جميعاً وجوه للمفكرين والأدباء والشعراء والرسامين والنحاتين والموسيقيين. مصدر الجدّة والاختلاف لنغمة أصوات المثقفين خلال الاعتصام وبعده أنها كانت مشحونة بأحلام الثورة لا بحسابات السياسة، مرطَّبة بعبق الفن لا مجففة بالنظريات المستهلكة، مشفوعة بحس التجربة الانسانية وبالنظرة النسبية لا بالأحكام المطلقة والأفكار الجاهرة، مظللة بظلال الحضارة وعمق الهوية لا بطلاء المصطلحات الرنانة، معنية بقيم الفكر والأخلاق وبلمسات الجمال لا بالمواءمات الحزبية والقانونية، مهمومة بفتح الطرق إلى المستقبل لا باجترار الماضى والوقوع فى أسره… إنها لغة الإبداع الملونة بأطياف الألوان ورقة الأشعار.. باختصار؛ هى القوى الناعمة للفن والإبداع، فلا يقف حائل بينها وبين المتلقى وهى تسعى إلى التوافق لا الصراع.
قد لا يكون ذلك كله قد تحقق خلال الشهر بكثافة كمية وبالقيمة الكيفية المطلوبة، لقلة المساحات التى أتيحت لأصوات المثقفين عبر قنوات الاعلام، وكذا للتفاوت النوعى بين هذه الأصوات ودرجة صدقها وتجردها، فى غياب قيادة تنظيمية تحدد الأولويات ولا تترك الأمور رهنا للصدفة أو لدرجة قرب المتحدثين من أصحاب القنوات والصحف، لكن عاملين اثنين فى تلك التجربة ساعد ا – بعيداً عن قنوات التلفاز والصحافة – على تغليب القيمة الكيفية:
الأول هو المنصة التى أقيمت على رصيف مقر الوزارة، وتولى شباب الفنانين من فوقها تقديم موسيقاهم وأغانيهم ورسومهم واسكتشاتهم المسرحية، والظاهرة الجميلة كانت انضمام العديد من الفرق الفنية الآتية من المحافظات، والملفت أنها كانت تمثل الفنون الشعبية التراثية أو الفنون العصرية الكلاسيكية والحديثة بغير تمييز عنصرى بين الثقافتين، والملفت كذلك وجود أطفال موهوبين بامتياز برزوا من خلال ورش للرسم فى الهواء الطلق أو للغناء وإلقاء الشعر أيضاً. وقام الشعراء بإلقاء قصائدهم، وكذا فعل الكتاب والروائيون والمسرحيون بطرح خواطرهم الثورية، بل رأينا كيف قدم راقصو فرقة باليه دار الأوبرا رقصاتهم المشتعلة حماساً وقوة فى نهر الطريق وسط مئات المتفرجين الذين تجمعوا من كل مكان وتزايد عددهم يوماً بعد يوم، ومن شرفات ونوافذ الطوابق العليا للبنايات المشرفة على المنصة أطل ساكنوها معبرين عن اندماجهم الحميم مع تلك الحالة الفنية الثورية كل ليلة. ذكَّرنا كل ذلك بما شاهدناه فى مليونيات التحرير أيام الثورة لكن بصورة أكثر تركيزاً. كانت هناك كل ليلة وجوه جديدة لم يسبق لها التعاطى مع مثل هذه الأنشطة، وفى كل مرة يجيئون بأطفالهم أو بأصدقاء وأقارب فيشاركون فى صنع “الحالة الثقافية”. الأهم من ذلك ما كانت تشهده قاعة الاجتماعات بداخل الوزارة كل ليلة من حوارات ثرية حول مختلف القضايا الثقافية والسياسية والأدبية والفنية، وكيف اجتذبت هذه الحوارات الكثيرين من الشباب العاديين وجعلتهم ينخرطون فى العمل الثقافى.
هكذا.. بغير تخطيط مسبق وبإمكانات ذاتية متواضعة، حقق المثقفون التلاحم العضوى المفقود مع الجماهير منذ أجيال، واستقطبوا مناصرين لقضيتهم من الشباب بوجه خاص، وزرعوا مساحات جديدة من الابداع المعجون بعشق الوطن، ثم جاءت المفاجأة التى لم يقصدها اعتصام المثقفين، وهى أنه تحول إلى نموذج استشرى فى عدد من المحافظات، حيث اعتصم المواطنون أمام دواوين المبانى التى توجد بها مكاتب المحافظين الإخوانيين ومنعوهم من الدخول، لنفس السبب الذى اعترض المثقفون به طريق وزير الثقافة بحكومة الإخوان!.. إذن أصبح المثقفون قادة للفعل الثورى وقدوة للجماهير بعد طول انقطاع وعزلة بين الجانبين !
العامل الثاني؛ هو مواقع التواصل الاجتماعى (الفيس بوك) التى اشتعلت باستجابات فورية وترديدات ثورية مع الاعتصام، وقامت بتوثيق فعالياته ولياليه ألكترونياً وترويجها على أوسع نطاق، حتى حققت حالة شعبية (للثقافة المقاوِمة) للقهر والاستبداد والتخلف، حرضت على تبنى مطالب المثقفين، فكانت وسيلة فعالة لنبذ النظام الإخوانى كله ومحاصرته، ولتغذية الحس الوطنى والرقص الجماعى على إيقاعه، وكذلك ساعدت على الالتحام بحركة “تمرد” المطالبة بإجراء إنتخابات رئاسية مبكرة، تلك التى مهدت مباشرة لثورة 30 يونيه.
إن هذه التجربة، وما يدخل فى سياقها من أنشطة بعد 25 يناير، تثبت لنا – برغم قصرها ومحدوديتها – عدة أمور:
- أن الفن فعل ثورى، وأن الثورة روح الإبداع، ودماؤه الجياشة، وأن المبدع فى جوهره ثورى، فلا إبداع بغير حرية، ولا حرية بغير نضال لتحقيقها، ولا معنى للنضال بغير تلاحم المثقفين مع الجماهير، ومع قوى الثورة والتغيير، ولا تغيير بغير هدف واضح تلتف حوله الطليعة الثورية مع القاعدة الشعبية.
- أن تفاعل المثقف والمبدع مع الجماهير ممكن التحقيق لو توفرت لديهما الإرادة، ولو تحررا من النزعات الفردية والدوافع الشخصية. ذلك يستدعى خروجها إلى الجماهير لا انتظار مجيئهم إليهما فى القاعات المغلقة وبدون اشتراط لتوفر الإمكانات الاحترافية. عنصر الحسم فى ذلك هو القناعة الدائمة لدى المثقف والمبدع بضرورة هذا التفاعل، بغير انتظار لأحداث أو مناسبات آنية يرتبط بها التواصل ثم ينفض بأنتهائها، مثلما حدث بعد فض اعتصام المثقفين؛ لقد توقفت جميع الأنشطة الفنية والندوات الثقافية فور إعلان التشكيل الوزارى، بل حتى من قبل إعلان أسم وزير الثقافة الجديد، لم تمتد يد لاستلام الشعلة من المعتصمين والانتقال بها إلى موقع آخر. فكان مكتب وزير الثقافة شاهد اشتعالها وانطفائها. ساعدت فى ذلك بلا شك الأحداث السياسية والأمنية المتلاحقة بعد 30 يونيه، ومواجهة البلاد لاعتصامات من نوع آخر، تغذى الإرهاب بدلاً من الفن، وتشعل الفتنة بدلاً من السعى للتوافق، وإن كنت أرى أن ذلك – بحد ذاته – كان دافعاً كافياً لاستمرار منصة إبداع المثقفين هنا وهناك.
- أن الدور الأهلى والمستقل للمثقف والفنان بمبادراتهما الذاتية ينبع من شعور بالواجب والضرورة، وقد ثبت ذلك بالفعل، ليس من خلال اعتصام المثقفين فى شهر يونيو فحسب، بل كذلك من خلال مهرجان “الفن ميدان” الذى يقام يوم السبت الأول من كل شهر بميدان عابدين، ويشارك فيه الكثير من الفرق الموسيقية الشبابية و جماعات الفنانين التشكيليين الهواة ورسامى الكاريكاتير والشعراء والمغنين وعروض الفيديو، إلى جانب عروض لمنتجات الحرف التقليدية بتصميماتها الجميلة، كل ذلك بجهود ذاتية متقشفة، ما يخلق فى كل مرة حالة رائعة من التفاعل الثقافى والتلاحم الوطنى، يؤكد هذه الحالة جلوس مئات الشباب على الأرض القرفصاء متلاصقين. وتكررت إقامة المهرجان فى ميادين ومحافظات أخرى بصفة غير منتظمة بعد قيام ثورة يناير، وحال نضوب الإمكانات المادية دون انتظامه، لاعتماده على التبرعات والمبادرات الذاتية. تدخل فى هذا السياق أيضاً أعمال الجرافيتى التى صاحبت الثورة منذ قيامها على جدران الشوارع والميادين بجميع أنحاء الجمهورية، وربما نلاحظ أنكماشها مؤخراً لنفس سبب أنكماش سهرات الفن ميدان؛ وهو قصور الدعم المادى، وانضمت إلى هذه المسيرة مبادرة من “لجنة الفن والمجتمع” المنبثقة من لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة، فأقامت مهرجانين لفن الجرافيتى وفنون الشارع فى أماكن مفتوحة بست محافظات بالوجهين البحرى والقبلى فى وقت واحد. ونأمل أن تواصل نشاطها فى الموسم الجديد بعد أكتوبر القادم لو تحررت من القيود البيروقراطية والمالية ووُضعت على خريطة عمل المجلس.
- إن مستقبل هذا العمل الثقافى – استمراراً أو اندثاراً – يتوقف على وجود التوافق الوطنى (سياسياً وثقافيا) بين الدولة والمجتمع، على أن الثقافة ضرورة استراتيجية لا تحتمل التأجيل أو التجزئة أو الاعتماد على المبادرات الفردية والخاصة، إنها باختصار عمل مؤسسى ومشروع دولة يليق ببلد ذى حضارة عريقة نشأت بالفكر المُصاغ بالفنون، ويمثل المشروع عملية بناء لوجدان شعب ووعى أمة ورسوخ هوية وانتصار ثورة على دعاة الظلام والتخلف. لا أبالغ لو قلت: أن الفن الحقيقى مناعة ضد الإرهاب، لأنه عدو التعصب والكراهية واحتكار الحقيقة، ولأنه يشجع التعدد ويحترم اختلاف الألوان، ولأنه يزرع فى النفوس الحب والتسامح والرقة والروح الإنسانية، ولأنه – بهذه السمات جميعاً – مدخل رائع لفهم صحيح لمبادئ الدين والقيم العليا فى الحياة… ألا يستحق مثل هذا المشروع أن يكون على رأس المشروعات القومية الكبرى، وأن يكون وعاء يحتضن كل المبادرات والخبرات والمواهب، سواء بالمؤسسات الرسمية أو خارجها؟
مشروع كهذا يستحق أن يكون عموداً للثورة الثقافية التى نبتغيها بالتكامل مع ثورتى مصر الأخيرتين. لو قارنا بين طبيعة شعب مصر قبلهما وبعدهما سوف نكتشف أن الفارق يكمن فى كلمة “الثقافة”. الثقافة هنا بمفهوم الوعى بالحياة وبالإنسانية، الإيمان بالقيم العليا للحق والعدل والكرامة ومن قبلها الحرية. إن الثورة ليست بنت الحتمية والضرورة المادية فحسب كما يرى الإجتماعيون، فكم من حتميات تستدعى الثورة على الظلم لكنها لا تولد ثورة، وكم من ضرورات للعيش غابت لكنها لا تدفع شعباً للتمرد على من سلب رغيفه وانتزع حقوقه. الدافع الأصيل للثورة هو وجدان مواطن فاض به الشعور بانتهاك مواطنته وإهانة كرامته والعدوان على إنسانيته، فاض به الرفض لاستلاب حريته، وتأتى بعد ذلك الدوافع المادية والفئوية والمعيشية. إذا غاب ذلك الفيض من الشوق إلى معنى العدالة والكرامة والحرية عن المواطن لم تكتمل دائرة الثورة، ولم تنفجر الشرارة لإطلاق قذيفة الخروج العظيم بالملايين كما رأيناها مراراً، ولرضخت سنوات وسنوات لسلطة القهر والظلم والاستبداد؛ أفلم يبق شعبنا ثلاثين عاماً فى هذه الحالة؟.. ماذا تغير فيه ليثور ويزلزل أركان الأرض بفيضاناته البشرية ثلاث مرات ويطيح برئيسين خلال ثلاثين شهراً ؟!
إنها الثقافة.. والثقافة تعنى وعياً وإرادة وثقة فى النفس بأنه يستطيع أن يفعلها ويزيح الطغاة، والثورة تعنى تسامياً وفيوضاً روحية من الإيمان بالمعانى العليا وبالتغيير. وتلك صفات تجمع بين الثورى والفنان، فكلاهما يؤمن بالحلول الجذرية، بالحدود القصوى للمطالب لا بالحدود الدنيا، ويحلم بما يراه بالبصيرة لا بالبصر وحده، يحلم بالتحقق الإنساني له وللإنسانية جمعاء، يؤمن بأن الحرية قرين للفرحة، وأن الكرامة قرين للرفعة، وأن العدالة ميزان للحياة. قد يمتزج بداخلها الحس الدينى وحس الشعراء وحس استشهاد الشهداء. كلاهما الثورى والفنان – يحلمان ويتطلعان إلى المثل الأعلى، كل فى مجاله؛ إن فى عمله الثورى أو عمله الفنى… أليس ما رأيناه خلال مليونيات ميادين التحرير فى أرجاء مصر منذ 25 يناير تعبيراً عن بعض تلك التجليات؟.. ألم تكن حلقات الغناء والشعر والرقص والمرح وورش الرسم والمجسمات تتوازى مع حلقات الهتاف وصلوات الجماعة ؟! ألم يصنع المعتصمون مدينتهم الفاضلة على الأرض مثلما يصنعها الفنانون فى أعمالهم ؟!
أعود إلى الثورة الثقافية، لأؤكد أن عليها يتوقف مصير الثورة الأم. إن التغيير الذى حدث فى وعى ووجدان الجماهير – وهو شرط استمرار الثورة وحصانتها – قد تهزمه، مع مرور الوقت، ثقافة أخرى، تحتية، تغلغلت جذورها على مر العصور فى دواخل المصريين عبر النظم الاستبدادية المتتالية وهيمنة المؤسسات التى توظف الدين لمصالحها أو لمصالح الحكم، عمادها التواكل والصبر على جار السوء، والاحتكام – بغير إعمال للعقل – إلى مرجعيات بالية، من الدين إلى الحكم والأمثال. قد يغذى هذه الثقافة التحتية تباطؤ تحقيق ما ثار الشعب من أجله، وقد تغذيه جماعات وتيارات دينية وسياسية تمكنت طويلاً من عقول المواطنين البسطاء وأفئدتهم فى غياب مشاعل وعى تنير وتكشف، وفى غياب خطط متكاملة بين برامج التعليم والإعلام والثقافة والشباب والأوقاف وغيرها. الثورة الثقافية تتطلب مشروعاً قومياً تشارك فيه كل تلك الجهات، ومعها من شاء من هيئات ومؤسسات المجتمع المدنى من نقابات وجمعيات ومنظمات حقوقية وتربوية، لطالما نادينا منذ عشرات السنين، مع غيرنا من أصحاب الرأى، بمثل هذا المشروع.
لقد أثلج صدورنا الخبر الذى أعلنته أجهزة الإعلام مؤخراً، بتشكيل لجنة عليا من وزراء المجالات السابق ذكرها، لوضع مشروع يشبه فى أهدافه ما ذكرناه، حتى يكون جاهزاً للتنفيذ. وأضم إلى بنوده هنا مشروع محو الأمية على المستويين الأبجدى والثقافى؛ فكفانا عاراً أن ندخل العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين وبيننا عشرات الملايين أميون أمية كاملة، وأضعاف هذا العدد أميون أمية ثقافية. ولأننا نتحدث عن ثورة فلا بد أن نؤمن بالحلم وبالفن معاً.. فلماذا الفن؟.. لأنه الأداة السحرية لتنفيذ هذا المشروع، بربط الحَرْف والكلمة بالقصة والقصيدة واللوحة، وباستخدام المسرح والفيديو والموسيقى والغناء ضمن أدوات التعليم، وبربط ذلك كله بحوافز اقتصادية واجتماعية من خلال مشروعات تنموية فى كافة القرى والأحياء الشعبية تواجه الفقر وتقضى على البطالة، ويقوم المشروع جميعه على منهج تربوى يتلخص فى ثلاث كلمات: (أَقرأ – أَعرف – أَتحرر)، وتلتزم النصوص المكتوبة والمسموعة والمرئية – المؤلفة خصيصاً لكتاب المتعلم – بترجمة معانى هذه الكلمات الثلاث مستخدمة أدوات الفن والقصة والشعر والأغنية، انطلاقاً من مفردات البيئة المعاشة. (ولمزيد من التعرف على ملامح المشروع وجد واه يمكنك العودة إلى كتابى “الصامتون – تجارب فى الثقافة والديمقراطية بالريف المصرى – ط2 – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012”.
إننا نضمن قدرة هذا المشروع على مواجهة أهم عدوين يتحديان مستقبل مصر القريب والبعيد، وهما الإرهاب والأمية، وكلاهما يصب فى الآخر، وكلاهما عائق أساسى للثورة ولأى مشروع للتقدم والتنمية. غاية هذا المشروع هى تجفيف المنابع التى تغذى العدوين بالمدد المتواصل من تحجر العقل وفساد الذوق وغلظة المشاعر وغياب المناهج التربوية فى التعليم والاعلام. إن ملايين المصريين الذين نشأوا على الأفكار الدينية المخاصمة للحياة وعلى التفكير ذى البعد الواحد ثم انقادوا إلى العنف والارهاب لتطبيق أفكارهم، لم يمارسوا طوال حياتهم فناً أو أدباً، ولم يستمعوا إلى موسيقى رقيقة، ولم يشاهدوا عرضاً مسرحياً أو سينمائياً جميلاً أو معرضاً للوحات والتماثيل، قبل أن يُلقَّنوا بأن الفنون جميعاً أشكال من الفساد والوثنية ومعصية الخالق والانصراف عن ذكره، إنهم فى الحقيقة ضحايا لا مجرمون!.. واجبنا أن نداويهم بما حرموا منه.. وهو الفن، أو على الأقل، لتكن البداية من الأجيال الجديدة من تلاميذ المدارس ومن مرتادى مراكز الشباب وقصور الثقافة.. وملاعب الكرة إن أمكن!.. وليكن مثالنا الحى فى ذلك هو مشروع “مسرح الجرن” للفنان المخرج أحمد اسماعيل، الذى طُبِّق عدة سنوات بمدارس الجمهورية.