المعجزة اليابانية..الحداثة أم الهوية؟

 

فيس بوك 2/5/2023
لو تأملنا لوحات المناظر الطبيعية المرفقة للفنان اليابانى العالمى كوكى كوجيما (مواليد١٩٦٣) لوجدنا انها امتداد للطريقة التقليدية اليابانية المتوارثة للرسم بالالوان المائية والأصباغ النباتية على ورق الأرز بمنمنماتها الدقيقة فى بعض أجزاء اللوحة، واندياحها حتى التلاشى فى الفضاء مع أشعة النور فى أجزاء أخرى ، وبلوغها درجة التجسيد الطبيعى أحيانا باستخدام النور والظلال وتصوير الصخور والجبال والوديان وجداول الماء المنحدرة من الأعالى والأشجار والغصون حتى أدق أوراق الشجر والأكواخ الخشبية ذات الأسقف الهرمية، وأحيانا أخرى باختزال التفاصيل حتى التسطيح والإكتفاء بالإيحاء الرمزى بملامحها ، وفى كل الحالات هى أقرب إلى الشفافية الروحانية، ولا تحاكى الطبيعة إلا بقدر ما تدركها النفس المتأملة فى جلال الكون أكثر مما تدرَك بالبصر والحواس المادية، وقد لا تختلف عن المدرسة التراثية اليابانية فى الرسم إلا فى خلوها من الكلمات المرسومة بحروف اللغة اليابانية، لإبلاغ رسالة من وراء المنظر، لا يشذ عن هذا التوجه حتى الفنانين الذين درسوا الفن فى أكاديميات الغرب وعاشوا فى خضم الحركات الفنية الحداثية المتطرفة، تلك التى تبدو وكأنها فى خصام مع مظاهر الطبيعة لتخلق واقعا بديلا يقوم على تحطيم المرئيات العينية فى الطبيعة وتشويه نسبها المثالية.
ونستطيع إدراك حرص اليابانيين على الاحتفاظ بهذا الطابع فى فنونهم عامة وليس فى فن التصوير وحده، وحرصهم كذلك على ألا يُستدرَجوا بشكل مطلق إلى محاكاة فنون الحداثة الغربية بمثل إقبالهم على العلوم التطبيقية والتكنولوجيا الرقمية التى انتقلت بهم فى سنوات قليلة إلى مصاف الدول العظمى بعد تدمير اليابان تدميرا كاسحا فى نهاية الحرب العالمية الثانية بقنبلتين ذريتين فوق هيروشيما ونجازاكى، فلم يجد اليابانيون غضاضة فى نقل إنجاز الغرب (الذى هزمهم) فقط فى مجالات العلم والتكنولوجيا حرفيا، للتعجيل بتعويض ما صنعه الأمريكان بهم من خراب فى أسرع وقت.. وأتصور انهم حققوا ذلك بتفوق ، بالتحكم فى طاقات الحداثة المستجلبة ، وكأنهم صنعوا (سدا عاليا) لتخزين كل ما وصل إليه العالم من أسباب التقدم التكنولوجى فى جميع المجالات، ووضعوا أمامها توربينات افتراضية عملاقة لتنظيم استخدامها فى توليد طاقاتها الجبارة وفق أولويات وبرامج صارمة كلُُ منها فى توقيته المطلوب، فيما جعلوا للثقافة سدا عاليا من نوع خاص يعتمد على طاقات نهر التراث الأعظم لليابان، الممتد منذ القدم، ذلك النهر الذى حافظوا على تنظيم تدفقه فى وجدان الأمة، بالتوازى والتكامل مع نظام للتعليم منذ الطفولة، لشحن الثقة فى هذا الوجدان وشحذ طاقاتها المعنوية ، فالتراث والتعليم هما الوقود الروحى والفكرى لبناء الإنسان الذى دمرته الحرب ، وتحفيزه للوقوف على قدميه من جديد لمواجهة المحنة ومضاعفة الإنتاج، فبدون هذا الوقود النابع من جذور التقاليد اليابانية العريقة التى تقدس قيمة العمل والجمال معا ، لن تستطيع التكنولوجيا تحقيق معجزة النهوض وتحدى الهزيمة والفوز فى سباق التقدم…وقد نجحوا فى ذلك فعلا حتى حققوا اكبر معجزة فى القرن العشرين بإرادة أسطورية جعلتهم على رأس الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا وتنمويا فى ذلك القرن.
والسؤال هو : لماذا لم يفعلوا نفس الشىء فى الثقافة، أعنى بالأخذ بإنجازات الحداثة الغربية فى مجالات الفنون المختلفة؛ تشكيلية كالرسم والنحت والحفر والعمارة ، وتعبيريا كالموسيقى والمسرح والأوبرا والسينما والباليه وغيرها؟..والإجابة ببساطة هى إيمانهم بأنه تكمن فى فنونهم وثقافتهم التقليدية وحدها ملامح هويتهم الحضارية، التى لا تصلح لتغذيتها وتقدمها أنماط الثقافة الغربية، وإدراكهم ان هذه الهوية هى كلمة السر فى قوتهم وحضارتهم التاريخية التى لا تقارن بكل معجزات التقدم التكنولوجى، فحرصوا على توظيف ملامح الهوية تلك فى عملية النهوض بالإنسان اليابانى، بالتوازى مع آلية النهضة المادية فى الاقتصاد والصناعة وبناء المنشآت والجسور والسدود والاتصالات والبرمجيات الألكترونية وحتى الصناعات الثقيلة التى لا هوية لها ولا وطن ولا مشاعر.
وليس معنى ذلك ان اليابان أغلقت ابوابها تماما فى وجه الفنون والثقافة الغربية الحديثة، بل العكس هو الصحيح، فقد أنجزوا فى السينما اعمالا حداثية كبرى لكن وفق ثقافتهم، فأصبحت تدرٌَس فى معاهد العالم، وحققوا إضافات مذهلة فى أفلام الرسوم المتحركة ورسوم وتصميمات الجرافيك والكمبيوتر، كما أن اليابانيين أكثر من بادروا باقتناء دُرر الفن الحديث لأعلام الفنانين العالميين وبأسعار فلكية عبر وسطاء وكشافين سريين عن المعروض للبيع منها فى مزادات الفن الكبرى فى العالم، لكن بهدف أن يكون مكانها هو المتاحف، كى يتذوقها الشعب ويكون على علم بمسار التطور العالمى، شريطة ألا يكون ذلك على حساب التأصيل لإبداعهم القومى الذى لا يكفٌُون عن تطويره بما يتناسب مع روح العصر واحتياجات مجتمعهم ، بأساليب من داخل تقاليدهم وطبيعتهم وأساطيرهم وقيمهم المتوارثة، سواء فى مجال الفنون العملية مثل العمارة والتصميم والأزياء وأنماط الزينة وتنسيق الزهور ومكونات مائدة الطعام…إلخ..أو فى مجال الفنون التعبيرية كالموسيقى والسينما والدراما والأوبرا والرقص…الخ..بما جعل من أنماطهم الفنية الحديثة النابعة من تراثهم القديم منافسا قويا لنظائرها فى فنون الغرب، بل أصبح لها عشاق يُقبلون عليها بدول أوروبا وشتى القارات، وجعلوا منها (القوى الناعمة) التى غزوا بها العالم.
هذا النموذج الآسيوى بالغ الرقى فى فهم أسس التنمية ، يُظهِر الفرق بين التنمية الأفقية فى البنية التحتية باستخدام العلوم والتكنولوجيا وآليات الحداثة الغربية، وبين التنمية البشرية الرأسية للإنسان بتأصيل جذوره الحضارية، وبدون أن يشعر اليابانيون بمركب النقص إذا لم يستجيبوا بشكل ميكانيكى لتطور الفنون فى العالم الغربى ، وهم على ثقة بأن الثقافة هى جذر الحضارة وعنوانها، وأنها الوحيدة التى لا تخضع فى تطورها للقوانين المادية، بل تخضع لقوانينها الذاتية المكونة من القيم الحضارية لبلادهم، فلم تهتز ثقتهم فى أنفسهم لو نظر الغرب إليهم على انهم يعيشون بثقافة الماضى.
إنه درس عميق لنا ما أحوجنا للأخذ به فى نظرتنا إلى الفنون الغربية الجانحة نحو الجنون، ونحن نحاكيها محاكاة الببغاوات ، وفى يقينى أنه درس لا تتميز به اليابان وحدها ، بل تماثلها فيه دول آسيوية أخرى مثل الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة ، وهذا ما يفسر لنا كيف أصبحوا..وكيف أمسينا !!!
مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »