فيس بوك 3 يونيو 2023
“التخييل” هو اهم لوازم الإبداع الفنى والأدبى بكل فروعهما، بمعنى أن كلا من الرسام والنحات والشاعر والقاص والموسيقِى والمخرج السينمائى وغيرهم ، يرى المحسوسات والمدركات – سواء كانت مرئية أو مسموعة او مدرَكة بالعقل او بالعاطفة – رؤية غير عقلانية لا تتبع المنطق والعلاقة السببية ودوافع الوظيفة العملية ، حيث يكون الخيال النابع من مراكز الفص غير العقلانى من مخ الإنسان هو مصدر الرؤى، عن طريق قانون آخر مجهول لا يزال العلم غير قادر على إدراكه وتفسيره حتى الآن.
وقد درج النقد – طوال عصور ما قبل القرن العشرين – على النظر إلى الفنون التشكيلية على انها لا تتجاوز فنون الرسم الملون والنحت والحفر والزخرفة والعمارة، بمعنى : كل ما يشكٌَل باليد ويدركه البصر، حتى بدأ فى الظهور ما يسمى “بالمفاهيمية” فى الفن التشكيلى، وهو المصطلح القائم على الفكرة حتى ولو لم يتم تجسيدها باليد فى شكل مادى ملموس، وإن كان المصطلح يحتمل أيضا استخدام مصنفات سابقة التجهيز بدون تدخل جوهرى لتغيير معالمه وطبيعته من قِبَل الفنان ، فأصبحت تعرض كعمل فنى مغاير فى مفهومه لما كان المصنف مخصصا من أجله منذ البداية، والفنان يستهدف من ذلك خلق مفهوم جديد نابع من خياله ورؤيته الذاتية، ودخلت الفوتوغرافيا على الخط لتقدم لقطاتها المصورة بعيدا عن وظيفتها العملية على أرض الواقع، فتعرض رؤى خياليةذات مفهوم ذاتى للفنان، بإيحاءات التشكيل والرسم والنحت والموسيقى والشعر…الخ. معطية مساحة واسعة لخيال المتلقى لتأويل المُعطَى الفوتوغرافى بالصورة التى يحسها صاحبه.
من هذا المنطلق دأب الفنان فتحى عبد السلام على أن يصور بالكاميرا بعض ثمار الخضروات المقطوفة من التربة مثل الفلفل وبعض المجدٌَرات والزهور والجذوع وتشققات التربة وقواقع البحر ، يقوم بتصويرها من زوايا خاصة تبرز التجعدات البارزة والتجاويف الغائرة فى كل منها، أو تبرز بتلات الزهر وقلوبها أثناء التفتح، ويهيئى خياله لتأويلها حتى تكون أقرب إلى كائنات عضوية أو مخلوقات خرافية، كأشخاص أو حيوانات أو طيور أو سواها، دون أن تمتد يده إلى النبات او القوقع أو الغصن لتعديل ملامحها الواقعية، فهو يعتمد اعتمادا كاملا على اختيار زاوية النظر والظل والنور وقدرة الكاميرا على التقاط جوهر الشكل الفنى من بين خيارات عديدة، ومن ثم ..فإذا كانت التجاعيد والالتواءات والانكماشات والتمددات على سطح الثمرة عفوية من صنع الطبيعة، فإن توجيهها وتكييفها واستكشاف الرؤية الفنية منها تأتى من قريحة إبداعه هو ، معتمدا فى ذلك على التخييل الباطنى والمناورة الخارجيةبعدسة الكاميرا لاختيار أفضل وجه يبرز المضمون الكامن فى خياله، فإذا جمع فى تكوين واحد أكثر من شكل يحتوى كل منها على “مفهوم” فنى تعبيرى، أصبحت لدينا “عائلات” من هذه المخلوقات الخرافية ، تتحاور وتتحاب وتتهامس وقد تتعارك حسبما يقود الخيال الفنان إلى استبطان حصاد الأرض والزهر والبحر من معانى ومشاعر.
وفى معرضه الأخير المقام حاليا بقاعة ضى بالمهندسين، يضيف فتحى عبد السلام عنصرا جديدا من الطبيعة يستمد منه التخييل الفنى ، وهو عفن الخبز ، حيث يتيح للعوامل الجوية أن تفعل فعلها المحتوم لتَحلٌُل سطح الرغيف وانتشار بؤر العفن الخضراء والزرقاء والبيضاء على سطحه، عبر فترات زمنية وتجارب تقنية مدروسة لمعرفة أثر العفن وتزايد هذه البؤر وتأثير كل منها فى محيطها على سطح الرغيف ، منفذا تجارب متتالية تصل إلى عشرين تجربة ، ويقوم بتصويرها فى لقطات تصل إلى مائة لقطة لكل تجربة عفن، وتقوم المعالجات التقنية بالكاميرا بالتلاعب بالألوان بما يضفى عليها قوة مضاعفة وتضادا ضوئيا ولونيا بين مساحاتها المختلفة، حتى تبدو كمساحات تجريدية حرة ومتفاعلة، تشكل تكوينات جمالية مبنية على التداخل والتضاد والتماهى اللونى والخطى، وبذلك يستولد الفنان من بؤر العفن فوق الخبز لوحات تجريدية بأسلوب الإسقاط الفورى العشوائى على سطح الأرض من دلو الألوان، مثلما كان الفنان الأمريكى جاكسون بولوك يفعل بعد ان يصعد درجات سلم نقٌَالى حاملا جرادل الألوان ويدلقها من أعلى فوق لوحة بامتداد عشرة أمتار مثبتة على سطح الأرض ، تاركا “للصدفة الموجهة” أو “المبصرة” حرية تحقيق التفاعل والتكامل عبر طرطشة الألوان وتداخلها فى بعضها البعض.
إن مثل هذه التجارب المعمليةالمغامرة منذ خمسينيات القرن الماضى، وما قبلها فى جماعة “الدادا” فى العقد الثانى من القرن العشرين ، كانت تمثل فى عصرها صدمة للذائقة الجمالية للجماهير والمثقفين أيضا، وحركة انقلابية ثقافيأ ضد السائد والمقدس بغرض كسر قداسته وإزاحة احتكار المؤسسات الرسمية للفن بالسخرية من رموزها، مثلما فعل مارسيل دى شامب حين وضع شاربا ذا قرنين عاليين فوق فم “الموناليزا” أيقونة فن عصر النهضة!..وهناك الكثير والكثير من التجارب المفاهيمية المستفزة على طريق التحدى للمفاهيم الفنية والأخلاقية الراسخة بهدف خرق المألوف وتحطيم القناعات التى عاشت عليها الإنسانية والحضارات آلاف السنين، لكن أهميتها تنحصر فى إحداث الصحوة – بين الحقبة والأخرى – لتقود إلى التحرر من طغيان حالات الهيمنة الذوقية الأرستقراطية على حركات الفن ذات المفاهيم التقليدية أو البرجوازية، لإحداث دوائر تفاعلية فى مياه البركة الراكدة، تعمل على الخروج بأساليب ورؤى جديدة تناسب متغيرات الحياة والذوق لكل عصر.
أما وأن كل التجارب والمغامرات الشكلية والمفاهيمية بكل تطرفها قد مورست واستهلكت عبر عشرات السنين، فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو : إلى أى مدى تصمد الحركات الانقلابية من هذا النوع ضد الفنون الراسخة والقيم العليا للفن فى كل زمان ومكان؟…التاريخ وحده هو الذى سيعطينا الإجابة ، إما بالتطور إلى رؤى إبداعية مبتكرة ومهجنة من القديم لتصبح جديرة بالبقاء والخلود، وإما إلى طيات النسيان ومراجع الباحثين ، وإما إلى صندوق قمامة التاريخ!




