سيد هويدى..وذاكرة الإنسان عبر الماء!

 

فيس بوك 10/5/2023
الماء شريان الحياة وبدونه لا حياة ولا إنسان، تلك حقيقة بيولوجية وفيزيائية ليست بحاجة إلى إثبات منذ بدء الخليقة، لكن هذه البديهية حين تكون مشروعا جماليا تصبح فرضا نظريا يتطلب إثباتا من جنس الجمال والشعور لا من جنس العلم والمنطق والطبيعة البشرية والجغرافية، خاصة إذا كان المشروع من الناحية الفنية لا يقوم على محاكاة الطبيعة. وبالرغم من أن الفن التشكيلى فى جوهره فن بصرى، مما يجعله حميم الصلة بالرؤية العينية للطبيعة على مر التاريخ، فلم يعد يناسب العصر ان تعتمد اللوحة على المَشاهد البصرية المألوفة “للمنظر الطبيعى”، بل على الرؤية الباطنية من داخل الفنان، كونها تكشف عن حالة إبداعية عما وراء الطبيعة وعن جوهرها الروحى والرمزى والمعنوى.
فماذا قدم الفنان والناقد سيد هويدى من رؤية باطنية وجمالية تستحق الاسم الذى اختاره لمعرضه الخاص المقام بقاعة الباب بالأوبرا تحت عنوان “ذاكرة الماء”..وهى رؤية تعنى إحلال نبضات القلب وفيض المشاعر وشطح الخيال والمفارقة الذهنية بوسيط لغة الشكل المجرد والخط واللون والتكوين والإيقاع، محل لغة الوصف الخارجى لمناظر الطبيعة وعناصر المكان والجغرافيا.
لقد ربط مشروعه الجمالى بعدة افكار رمزيةوميتافيزيقية تُرجِمت بواسطة عناصر بصرية وجمالية…منها فكرة امتداد الأفق للبحر والنهر مفتوحا إلى مالا نهاية نحو آفاق لا مرئية يؤكدها اللون الأزرق الذى نراه بطلا لأغلب اللوحات، متماوجا ومتماهيا فى اللامحدود، ومتغيرا فى تدرجات تأخذك حينا إلى الأخضر الفيروزى، وحينا آخر إلى السماوى الناصع، وثالثا إلى الرمادى المُحايدالمُغْبَر ..وهكذا.
ومنها فكرة السفر بالسفن والمراكب والقوارب التى تموج بها اللوحات بأشرعتها المثلثة المنعكسة بغموض على صفحة الماء.
ومنها فكرة ارتياد المجهول بهذه السفن والقوارب بحثا عما وراء البحر أو النهر، أو بحثا عما فى أعماقهما من لآلئ أو أسماك تمثل غذاء الإنسان او مصدرا للزينة والجمال بألوان السمك الزاهية العجائببة.
ومنها فكرة التدفق والاستطراد فى المسيرة الأزلية للماء عبر تداعى الموجات وسريانها اللامرئى مدفوعة بقوة خفية كسريان رحلة الوجود المطلق، ويتبدٌَى ذلك فى كثير من اللوحات حتى من خلال عناصر غير مائية، فى شكل أسراب الطيور المهاجرة والخيول الجامحة والسحب المتسارعة على صفحة السماء وانعكاسها فى الماء.
ومنها، أخيرا وليس آخرا، فكرة الإِطلال العمرانى من الشواطئ للبيوت والمدن ومظاهر العمران على صفحة الماء للبحر والنهر، مستهدفة نسمات الطبيعة وهمس الأمواج، أو مستشرفة ما وراء الماء من إرهاصات مجهولة تحرك البصيرة قبل البصر لاستكناه هذا المجهول، أو لإدراك المعنى الحضارى لتكامل المشهد البصرى، إذ تجمع اللوحةرموز الأديان من منائر وكنائس وملامح تاريخية ، كما تجمع ملامح الطبقات الاجتماعية المتباينة عبر أنماط العمارة بمختلف مستوياتها.
ولأن السؤال الجوهرى للفن يكمن دائما فى “كيف” وليس فى “ماذا”، فإن مكامن الجمال فى هذا المعرض تقع تحت كيفية ترجمة الفنان كل هذه الأفكار المجردة إلى دَوالٌ جمالية بعيدا عن نموذجية المناظر الطبيعية، أولها الالوان الصدٌَاحة بالبهجة والصريحة باستقلالية كل لون عن الآخر، دون الخلط مع غيرها فى أغلب الأحيان، حتى تأخذك اللوحة أحيانا إلى مشارف التجريد، مما يتبدٌَى فى المساحات الحرة المفتوحة أو المتقاطعة.
وثانية هذه الدوال الجمالية هى ابتكار أشكال مغايرة لعناصر الطبيعة، تعبيرا عن الكائنات الحية أو الجمادية على السواء، يستخدم فيها الفنان حلولا هندسية مجردة بخطوط مستقيمة ممتدة أو متقاطعة، متراوحة بين الإيقاع الأفقى والإيقاع الرأسى للخطوط الصريحة السوداء، فى بناء تجريدى أقرب إلى أعمال الفنان موندريان حينا، وإلى الفنان كليمت حينا آخر، وهو ما يبدو قريبا من منمنمات كليمت الفسيفسائية من بقع وجزيئات لونية متجاورة ومتصاعدة فوق أسطح المبانى المطلة على الماء، وما يتخللها من نوافذ وفتحات بإيقاعات أرابيسكية.
وثالثة هذه الدوال هى الجمع – أحيانا داخل العمل الواحد – بين التشخيص والتجريد، والجمع احيانا أخرى بين الهندسى والعضوى، وثالثة بين التكوين الرأسى والأفقى، ورابعة بين التجسيم والتسطيح للكتل، وخامسة بين الامتداد المنظورى فى العمق بثلاثة ابعاد والمنظور المسطح ذى البعدين، او بين الإيماء الرمزى والتصريح المباشر…فقد امتلك الفنان حرية العبور – والتداخل معا – بين المدارس والاتجاهات الفنية قديما وحديثا، حتى اباح لنفسه الأخذ المباشر من بعضها أحيانا..لكنه حريص فى الأساس على إضفاء الروح المصرية ومذاقها المناخى والرمزى فى الزمان والمكان.
هكذا نجح ابن دمياط، سيد هويدى ، فى التقدم خطوة واسعة بمساره الفنى أسلوبا ومنهجا، عبر استلهام عصرى حميم الارتباط بالجذور الحضارية المصرية، وهو مشمول فى نفس الوقت بروح الحداثة الأوروبية فى الفن، كمشروع آمَنَ به لحل معادلة الأصالة والمعاصرة.
مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »