كنت أسير “كورونا”..فصرت سيدها!

 

عز الدين نجيب
فيس بوك 1 يوليو 2020
العزلة سجن لروح الفنان، إلا إذا كانت باختياره فى وقت القراءة أو الإنتاج والحرية أم شرعية للحياة ولو كانت مضنية او ضنينة ، فهى تحرير من قيد الضرورة ..والضرورة إجبار وكبح لمشيئة الاختيار ، حتى لو عاش المُجبَر معزولا فى قصر منيف على النيل.. والإجبار استلاب قسرى للحرية ، حتى لو كانت تمليه ضرورة الحفاظ على حياة الإنسان..
إذن.. فالإبداع شجرة ترتوى بالحرية ، وطير يحلِق خارج الضرورة والعزلة والإجبار..
…فكيف يبدع الفنان أو (الأديب) وروحه حبيسة وجناحاه مقيدان؟!
بل كيف يحيا بدون الناس، فيما يزدهر إبداعه بالتواصل مع شؤونهم وشجونهم، وبلمسات فطرتهم الفنية على بيوتهم وعلى حرفهم اليدوية العبقة بالأصالة؟
وإذا كان يمكن اليوم تحصيل المعرفة عن بُعد عبر الإنترنيت ، فكيف تعاش الحياة مع الناس أو يتاح السفر للفنان فى رحلات فنية لأماكن ذات خصوصية محببة الى قلبه كرصيد للإلهام ، بينماشعار المرحلة هو: خليك فى البيت؟!
ثمة حلقة مفقودة تقطع الدائرة الكهربية لتيار التفاعل الإنسانى والإبداعى بينى وبين حوافز الإلهام عند الناس فى مواطنهم الأصلية، وقد يمكننى الاستعاضة عن الاتصال المباشر بهم عن طريق اجترار رصيدى السابق الذى شحنت به بطارية إبداعى ، لكن الاجترار لا يتأتى بأمر أصدره إلى نفسى او بضغطة على زر وقتما أشاء ، بل ياتى بقدْح حجرين بقوة ، فتتولد شرارة الإبداع ، وأعنى بالحجرين “البصر والبصيرة” ، أو المبدع والمادة الخام للواقع حين يتم الاحتكاك بينهما فتنطلق الشرارة ، وذلك لا يتحقق فى ظروف العزلة الاضطرارية والقلق الدائم من تسلل قاتل محترف لا يُرى ولا يُعرف متى ومن أين يأتى ، ويفاجئك بالإطباق على أنفاسك بخسة وأنت وحيد فى بيتك ولا أحد يسمع استغاثتك..
ماذا يجديك عندئذ كل مخزون ذاكرتك وخيالك من الخبرات والمفارقات والذكريات؟..وحتى لو لم يصل إليك القاتل ؛ فمن أين لك الشهية أو الشغف للرسم او الكتابة ، وأنت معلق من أذنيك برباطين يشدان كمامة على فمك بإحكام ؟..ثم إنك مصاب بوسواس خناس يجعلك تدعك يديك كل بضع دقائق بمطهر نفاذ الرائحة، وتنتفض مذعورا كلما سمعت رنة من جرس الباب تنذر بقادم مجهول قد يحمل لك الموت ولو كان
صبى المكوجى!
لقد جربتُ، على امتداد مشوارى مع الفن والأدب، أنواعا شتٌى من التحديات والتصادمات المحبطة، وربما المميتة أحيانا، لكننى كنت أجد دائما القوة للعلوٌ فوقها، كما كنت أجد الحافز للتعبير إبداعيا عنها أو عن سواها من الخبرات الإنسانية والجمالية ، تلك التي اقتضت أن أجوب البلاد من ريفها إلى حضرها ، ومن واديها إلى صحرائها ، ومن بواديها الى مدائنها، بحثا عن الأصالة وجوهر الإنسان والجمال ، وعبر هذه الخبرات كنت وكأننى أشيٌد بناء متعدد الطوابق من أعمال أدبية وفنية ، تتراكم وتتكامل وتتفاعل مع الواقع ، كانت قاعدتها حب الحياة والناس والجذور، وكانت أعمدتها حرية الاختيار والقدرة على الخلاص من ربقة الضرورة أيا كان نوعها، أما قمتها فهى رؤية امتلكتها للحياة والوجود والتقدم وقيم الحق والجمال…
وفجأة وجدت نفسى حبيس البيت، ممنوعا من الاختلاط بالبشر شهورا متصلة ، ومعطلا كذلك عن السفر فى رحلة كنت أنوى القيام بها الى واحة سيوة، بحثا عن منابع فنية ورؤية جديدة ، كما اعتدت فى كثير من تجاربى الفنية السابقة، وكان المنع أو التقييد بأمر الدولة، التى امتثلَتْ بدورها بأوامر وقيود الجائحة الوبائية”كورونا”…فى البداية لم أشعر بجدية الأمر، بل شعرت بالاستثارة والترقب، مع قدر من السخرية والاستخفاف، كوْن العدو الذى يعتقلنا فى البيت فيروس تافه وغامض ومجهول الهوية والأصل والنسب، ومع ذلك امتثلَتْ لسطوته أعتى الدول وأشدها جبروتا، بينما أثره لا يزيد عن أثر نزلة برد عادية سرعان ما تزول، وكنت مشغولا بالإعداد لمعرض جديد للوحاتى ليقام فى شهر ابريل احتفالا بعيد ميلادى، ومن ثم لم أشعر بضيق شديد فى الأسابيع الأولى للحظر ، اللهم إلا حزنى لعدم تمكنى من السفر الى سيوة ، وعوضت ذلك بالعودة الى اسكتشاتى السابقة التى رسمتها فى الواحة ، على أن أخصص وقت الرحلة لترميم عدد من لوحاتى التى أتلفتها الأمطار فى جائحة جوية أخرى سبقت ظهور كورونا بعدة أسابيع ، وكانت مركونة بشكل مؤقت فى مكان مكشوف خارج المرسم ، وارتحت لوجود ذريعة لعدم الخروج فى مشاوير غير ضرورية ، بل إنها تضيع الوقت بغير طائل ، لكننى مع مرور الأيام وتفاقم انتشار العدوى وتصاعد ارقام المصابين وأعداد الوفيات على مستوى العالم ، بدأمزاجى ينحرف شيئا فشيئا ، خاصة مع اقتراب موعد المعرض ، وعجزى عن التركيز فى عملية الترميم ، بعد ان فتر حماسى لإقامته فى ظل هذا الكابوس، ثم تفاقم إحساسى بالاختناق ، لمجرد كونى، لم أعد حرا فى اتخاذ أى قرار ؛ مجرد إحساسى بالإكراه المعنوى من سلطة قاهرة غير مرئية تستمد قوتها الجبارة من ضعفها وتفاهتها ، كان يشعرنى بالإهانة والغضب ، لعجزى عن مواجهتها أو فهمها، أو معرفة متى ينقشع تهديدها للبشرية جمعاء ، بل إن أية معارض فنية أصبحت بلا معنى ، فى وقت يواجه كل إنسان شبح الموت فى اى لحظة ، وعندما صدرت القرارات بالإيقاف الكلى للأنشطة الجماهيرية فى البلاد ومنها الأنشطة الثقافية ، أخذ غضبى يخف تدريجيا ، ليحل محله نوع من الإستسلام المحبَط ممزوجا بطعم الهزيمة واكتمال دائرة الحصار ، ولم يكن يعزٌينى عن ذلك الشعور – ولو قليلا – إلا أننى لست وحدى فى ذلك ، بل يشاركنى العالم أجمع ، وقد أصبح يقف على أطراف أصابعه متابعا ساعة بساعة ارقام الإصابات وقوائم الوفيات ، أو مترقبا بلهفة خبرا قد يهدئ النفوس المفزوعة ، عن اكتشاف لقاح أو دواء ينقذ الأرواح.
بدأت أستدعى من خبرات الماضى البعيد فى حياتى تجارب واجهتُ فيها العزلة شهورا طويلة ، وقد عشتها فى كل مرة دخلتُ فيها السجن تكفيرا عن مواقف سياسية ،
كانت أقساها فترات الحبس الانفرادى ، عندئذ كان خيالى يحلق بعيدا عن جدران الزنزانة الضيقة، لأنسج خيوط أعمال قصصية او تشكيلية ، وأحيانا كنت أخطط بعُقب قلم رصاص على الجدران بعض الرسوم ، أو أسجل بعض الخواطر ، مثلما أسجل مرور الأيام فى السجن بإضافة شَرطة كل يوم ، وأحيانا أخرى أستغرق فى تأمل تأثيرات الرطوبةعلى طبقة الجير البيضاء التى دُهِنت بها الجدران وقد تساقطت فى أماكن متفرقة، فأستدعى بخيالى من خلاله أشكالا وتكوينات أسطورية أو سريالية أو تجريدية ، وأحيانا رابعة أستغرق فى حالة من التأمل الفلسفى والوجودى ، أو أختلق حوارات صاخبة بغير صوت بينى وبين شخصيات كبيرة ونافذة تعرضتُ للأذى منها ، فأردٌ لها الصاع صاعين.. فى خيالى طبعا!…أو أسرح فى بناء مشروعات مستقبلية لما بعد خروجى من السجن….عبر كل ذلك كنت أقوم بعملية تحريرٍ ذاتى لروحى التى لا أسمح لأحد قط بأن يحبسها مثلما تم حبس جسدى ، فكنت بالفعل أشعر بالحرية ، خاصة لو توفرت لدىٌَ كراسة مُهرٌَبة لى عن طريق أحد المساجين الجنائيين عبر القضبان الحديدية لباب العنبر ، لأكتب على صفحاتها مذكراتى وخواطرى يوما بيوم ، أو أسجل فوقها بعض الرسوم الخطية.
أما الآن ، وأدوات الرسم والكتابة متوافرة فى متناول يدى ، ولا يوجد ثمة اعتقال لجسدى ، لأننى حر فى الخروج لقضاء مشاوير قصيرة فى غير أوقات الحظر ، فإننى أشعر بأننى معتقل ، وبأننى عديم القدرة على التركيز فى شىء ، خاصة عند محاولة قراءة الصحف ، ناهيك عن الكتب ، وقد أُمضى وقتا طويلا فى التجول بين مواقع التواصل الاجتماعى على تليفونى المحمول، وأتابع التعليقات الساخرة التى يتفنن المصريون فى إطلاقها على كل شىء، بدءا من الفيروس ، ومرورا بمسلسلات رمضان ، وانتهاء بالسخرية من أنفسهم ، ولكننى سرعان ما أشعر بالملل، ويعترينى إحساس غامض بأن شيئا بالغ الأهمية يفر منى وأنسى ما هو ، وأحاول أن أستعيده بغير جدوى ، لأننى أساسا لا أعرفه!..لقد فقدت أهم ما كنت أعتز به ، وهو قدرتى على التركيز وعلى إطلاق الخيال لخلق عالم من الرؤى والأحلام والمشروعات للمستقبل..حتى خفت ان أكون أصبت بمرض نفسى!
الغريب هو أن حالة العزل التى أدت إلى كل ذلك أهون بكثير وأخف وطأة من حالة الحبس الانفرادى فى الزنزانة ، فلماذا تتملكنى اليوم هذه المشاعر السلبية؟..توصلت إلى وجود سببين: الأول هو أننى فى السجن كنت صاحب قضية وطنية أومن بها وأشعر بالفخر لعقابى عنها ، والثانى أننى فى عزلي المنزلى مسلوب الإرادة والقدرة على الاختيار وبلا أية قضية ، وبِتُ أسيرا لأجل غير معلوم لقوة مجهولة تجعلنى فى حالة دائمة من الوحشة ومن التوجس من أى اتصال بالبشر ، خاصة عندما أخرج لشراء بعض حاجاتى من السوق أو من الصيدلية أو المخبز أو بائع الصحف أو للذهاب إلى الحلاق ، وذلك خوفا من العدوى، مهما اتخذت من احتياطات، إن التواصل الإنسانى الذى أشرت فى بداية المقال إلى ضرورته أصبح – بحد ذاته – عنصر التهديد الذى يحضني على الابتعاد عن الناس والاحتماء بالبيت..يالها من مفارقة!!
وأدركت أننى لن أستطيع استئناف الرسم بهذه الحالة المزاجية المنحرفة مشمولا بإحساس بالقهر ، لكننى وجدت فى الكتابة على صفحتى بالفيسبوك بعض التسرية ، خاصة فيما أشارك به زملائى الفنانين فى بعض القضايا الملحة ، وقد لمست تفاعلا إيجابيا مع كتاباتى ، أظن انه ساهم فى إطلاق إرادتهم لاتخاذ موقف لتغيير بعض الأوضاع المختلة .
عند ذلك تخلصت من الطاقة السلبية الناجمة عن حالة الحصار القهرى، وشعرت بقدر كبير من الحرية ، ولم أعد أسيرا للعزلة التى فرضتها جائحة كورونا ، بل أصبحت سيدها الذى يوظفها لما يريد ، خاصة بعد أن قمت بإخراج مخطوطة سبق ان ركنتها بعد ان قطعت شوطا فى كتابتها قبل الجائحة ، وهى مشروع رواية جديدة ، ورحت أستعيد خيوط أحداثها وشخصياتها ، وأستأنف السرد من جديد ، متحررا من وطأة العزلة بل متمتعا بميزتها كفرصة للتفرغ للكتابة ، سواء بقيت كورونا وأطالت البقاء ، أم رحلت غير مأسوف عليها.
مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »