فيس بوك 28/5/2023
الكلمات بعاليه هى عنوان المعرض المقام حاليا بقاعة أزاد بالزمالك..عنوان شعرى أخاذ مثير للخيال، رغم أنك لن تجد مدنا من طين ولا أثوابا من قطن أو حرير، بل ستجد لوحات تجريدية بأحجام عملاقة منفذة بتقنية التبقيع اللونى “تاشيزم” بألوان براقة فوق سطح مجعد ذى بروزات مدببة وطبقات كثيفة من العجائن تنتج نتوءات وملامس بدائية خشنة، تتخللها شظايا من قش القمح المدروس (التبن) وبعض التأثيرات قد تكون موحية بالبيئة الزراعية، وتنميشات خطية قد تكون موحية بزحام بشرى، تتخللها قصاصات صغيرة ملونة من القماش متناثرة هنا وهناك فوق السطح.
لكنك ستكون أقرب إلى فحوى العنوان الشعرى عندما تعرف شيئا عن الفنان نفسه ؛ وهو إبراهيم الحسون، السورى المهاجر من وطنه، وقد استقر به المقام فى تركيا بعد أن حصل على جنسيتها، وهنا – ولأول وهلة – ستدرك البعد النفسى والمعنوى العميق للعنوان؛ إنه يعكس حالة من الحنين للوطن الذى فُرض على الفنان الاغتراب عنه، فيستدعيه من خلال دوالٌَ ثابتة فى قاع ذاكرته للبيوت الطينية التى نشأ فيها، ولثوب أمه المزخرف بشتى الألوان كعلامة على عمق الانتماء للأرض وللأم بمعناها الرمزى الشامل وهو الوطن.
إننا بغير استدعائنا لهذا المعنى الإنسانى والوجودى فى حياة الفنان، وباكتفائنا بالنظر إلى اللوحات كأعمال تبقبعية مجردة من أى معنى، لن نجد أكثر من اجترار لتقنيات تشكيلية مما تفرزه اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة فى أوروبا والغرب فى القرن العشرين، وربما كان ما يقرٌِبه إليها هو اتجاه فكرى بعينه من فنون ما بعد الحداثة، يدعو للعودة لاستلهام البيئات البشرية البدائية ولاستدعاء ملامحها الفطرية التى تقف على طرف نقيض من طبيعة المجتمعات الصناعية الرأسمالية بأنماطها الثقافية والسياسية القائمة على الهيمنة الإمبريالية وتوجهات العولمة الاقتصادية حتى تصبح كل شعوب العالم تابعة لها ودائرة فى فلكها، ففى فلسفة فنون ما بعد الحداثة تيار احتجاجى ضد العولمة الخالية من المشاعر وآثارها المدمرة لخصوصيات الشعوب والفطرة الإنسانية، لكن دراويش الحداثة من الفنانين والنقاد فى بلادنا لا يأخذون من الاتجاهات الحداثية إلا القشور التقنية، مصدقين أن الفن رؤية بصريةبحتة لا تحمل اى مضمون أو موضوع، ولا يعرفون او يبالون بالوصول إلى الٌُلب وسبر أغوار التحولات الفكرية والثقافية وقضايا العولمة والحداثة بشكل عام ، ولا يستخلصون منها جانبها الإيجابى الذى يناسب طبيعةمجتمعاتهم وثقافتها وتوجهاتها النهضوية أو ما يتطلعون إلى إيجاده لصالحها، لكنهم -بدلا من ذلك – يرددون ما تلتقطه آذانهم وعيونهم كالببغاوات، ويظلون واقفين على بسطة السلم لا يراهم أحد من فوق (من الغرب) ولا من تحت (من وطنهم).
إبراهيم الحسون – الفنان صاحب هذا المعرض – مضى فى الطريق حتى نهايته، فحسم قضية الانتماء بالحصول على جنسية تركيا، مغمصا عينيه عن كونها تخوض نزاعا مصيريا ممتدا ضد بلده ، وتشتبك معه فى حالة حرب تهدد وحدة أراضيه، لكن كل ما يعنيه هو النجاة بنفسه وتأمين مستقبله واللحاق بقطار ما بعد الحداثة الذى يوصله لاعتراف الغرب به كفنان يتحدث لغته..وكل هذا حقه إذا لم يكن يتعارض مع انتمائه لوطنه الأم، لكن يبدو انه يتنازعه – فى الوقت ذاته – شعور بالحنين إلى جذوره فى مسقط رأسه وذكريات أمه، فوجد الصيغة الذهبيةللتوفيق فنيا بين الشعورين المتنازعين بداخله هى الأسلوب التجريدى بنكهة ما بعد الحداثة، المتعايشة مع البيئة والحس البدائى، مع الحرص عل أن يضفى على اللوحات طابع البهجة اللونية والإثارة البصرية، حتى بدت (حلوة المذاق) مغرية بالاقتناء بمبالغ باهظة لفئة من الباحثين عن هذا النوع لملء فراغات الجدران الكبرى فى قصورهم بنوع حداثى من الزينة، خاصة وان موضوع “مدن الطين” لا يجد ما يدل عليه فوق قماش اللوحات إلا البروزات والنتوءات الجدارية وشظايا التبن، وان ثوب أمه قد تهلهل إلى قصاصات صغيرة لا تكاد ترى، والأهم هو أن الطين قد تحول – بين لوحة وأخرى – إلى مساحة لونية تتألق بألوان الموف والهافان والتركواز والأخضر السيفر والوردى الحالم، تلتمع بين ثناياها شظايا قش القمح الذهبية فى بريق أخاذ ، بِحِس ديكورى لا علاقة له بالحالة التراجيدية لقرى تم هدمها على رؤوس سكانها، وقد تُلاحظ أطيافا بالغة الغموض لما يشبه الشخوص المستلقية والكائنات الحية تستطيع النظرة الفاحصة المحنكة إدراكها، ولن تلاحظها العين غير المدققة وغير القادرة على فهم لغة الهمهمة ، وقد يقال إن الفنان يقصد بها شهداء القرية وضحايا العدوان الذين يضمهم باطن الأرض، لكن البحث عنهم تحت العجائن الكثيفة للوحات أشبه بالبحث عن توابيت لمومياوات أثرية تحت الطبقات السفلى لهذه الأرض، التى تبدو فى المعرض مشرقة بالبهجة..لا كاتمة للأحزان والأسرار!
إبراهيم الحسون فنان نموذجى لأبناء العولمة وفنون ما بعد الحداثة العابرين فوق ثقافة أوطانهم، وسوف يجد بالتأكيد من يهلل لأعماله ويقتنيها بارقام أمامها خمسة أصفار، لكن ليس لأنها تعبير عن بيوت الطين التى دمرتها حروب الحكام والداعشيين والطامعين ، او عن ثوب امه (الوطن) التى تفرق دمها بين القبائل !
