فيس بوك 23 ابريل 2021
هو جنتلمان دفعة ١٩٦٤ من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، يرسم ويتكلم ويسلك مع الجميع بأدب جم ، يبدو كسليل أسرة برجوازية عريقة ،تتعامل مع الحياة بأطراف أصابعها ، تاركة مسافة بينها وبين الآخرين، لكن نذير فى الحقيقة كان على عكس ذلك تماما ؛ حميم العلاقة مع زملائه بفَيض من الصدق والعاطفة ، أنيس ومؤنس، رقيق وهو يخاطب الصغير قبل الكبير ، ويحتضن الفقير
قبل الغنى ، وكان أغلبنا فى الكلية أبناء فقراء ، نعوض فقرنا بالثقافة والسياسة والقراءة وعشق الفن ، وبكثير من الحب والضحك والسخرية والحديث بصوت مرتفع ، وبعدم اكتراث بأى انماط برجوازية ، بل بالكثير من التهكم عليها ، وعندما وقع فى الحب كانت فتاته فلاحة مصرية فقيرة ، رسمها فرسمته بأجنحة ملاك ، وفاضت بكم من الرسوم التلقائية الساذجة تعكس أحلامها ومخزون طفولتها البريئة فى قريتها ، أبهرته بثراء روحها الضارب فى آلاف السنين من تاريخ مصر ، فجعل منها أميرةأحلامه ، ولم يتردد فى اتخاذ قراره بالزواج منها وهو لا يزال طالبا بالكلية ، ثم عكف على تعليمها القراءة والكتابة ولم يحاول أن يعلمها قواعد الرسم كى لا يفسد براءتها حتى صارت أم أولاده وفنانة مرموقة بمصر والشام ، تضاهى لوحاتها أعمال مارك شاجال الذى لم تكن سمعت عنه او رأت له لوحة واحدة ، وتزيد عنه بحسها الطفولى الخلاب…إنها الفنانة المصرية شلبية إبراهيم.
لقد فعل بذلك ما لم يجرؤ على القيام بمثله المثقفون الثوريون فى جيلنا ، خاصة حين اصطحبها – بعد أن أتم دراسته الأكاديمية – إلى دمشق ، حيث قدمها إلى مجتمع الفنانين كفنانة يفخر بها وهو الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بدمشق أواخر الستينيات ، بل صارت أسطورة عصرية للأجيال.
كان سوريًا وفيا لبلده وداعيا لتقدمه وتحقيق العدالة فيه ، لكنه ظل حتى آخر عمره مصرى الهوى والوجدان ،حتى اتخذ من مصر وطنه الثانى ، يعيش فيها مهما بعد عنها أكثر مما يعيش فيها أبناؤها ، وفيًا لكل أصدقائه من الفنانين والشعراء والأدباء بأكثر مما هم يحرصون على ذلك مع بعضهم البعض ..بيته فى القاهرة دار مفتوحة لهم دائما كداره فى دمشق ، وأبناؤه ورثوا عنه وعن أمهم حبهم لمصر حتى ارتبطت إحداهم بها وتزوجت منها كما فعل هو ، مع فارق الاختيار والظروف ، وبيته فى دمشق ظل يستقبل المصريين ويغدق عليهم بكرمه (وكنت أحدهم فى التسعينيات) مثلما يفعل معهم فى القاهرة بأكثر مما يفعلون معه.
هكذا كان نذير الإنسان ، أما نذير الفنان ؛ فهاهى لوحاته ، تبدو كقطع من الحرير او القطيفة ، استطاع فيها أن يحول مهاراته الأكاديمية العالية وشغفه بفنانى عصر النهضة الأوروبية – خاصة بوتتشيللى – إلى مقطوعات من الطرب الشرقى الأصيل بالفرشاة والألوان، عن أزمنة غاربة ، بطلاتها الحسان تعزفن وهن تتمايلن بين الزهور والبساتين والطيور ..كان بوسعه مسايرة اتجاهات الحداثة الأوروبية ، لكنه كان صادقا مع نفسه فاختار ما يحبه ويمس قلوب الناس فى وطنه ويرتبط بالثقافة العربية ، كان شغوفا بالطرب والغناء مثل كل أهل الشام ، وكان يرى ان الفن تطهير للروح كالموسيقى ، وهدأةُُ للقلوب المعذبة والنفوس القلقة ، وبقدر ما كان اختياره المراة لتكون بطلة رئيسية لمعظم أعماله ، فقد كانت معادلا للوطن وعلامة على التاريخ والأصالة والكبرياء ، أكثر من كونها تعبيرا أنثويا يشبع الغرائز ويرضى الطبقات المتطلعة إلى تزيين قصورها ، والمتكبرة المتفاخرة بما تملك لا بما تحمله من ذوق ومشاعر..ولأنه كان ابن الحلم والخيال ، فقد أضفى عليها أمشُقًا من الأزياء الأسطورية والقلائد والأقراط العربية التى لم تعد موجودة إلا فى الصورة الذهنية لأميرات ألف ليلة وليلة…لكن عالمه لا يخلو من تعبيرات أسطوريةتجمع بين رموز الجمال والتنوير والخرافة والسحر وعالم المجهول..
رآه البعض هاربا من الواقع المناقض تماما لما يرسمه ، لكنه بالقطع لم يكن يسعى لتخدير الناس بل لتكون اللوحة معادلا للعزة ونافذة للحلم العربى وأسطورة تكمل ما بدأته شهرزاد فى لياليها الألف وليلة.
نعم كان نذير تقدميا فى الفكر والسياسة ، لكنه كان محافظا فى الفن ، حرصا منه على ألا يقتل بهما حلمه الإنسانى الأبعد مدى من كليهما ، فتعانق حلمه مع حلم رفيقة عمره شلبية ، ليجعلا من فنهما عنوانا للبراءة يواجهان به قبح الواقع!


