فيس بوك 16 أبريل 2023
ليس مصادفة أن تنشأ بينه وبين الوجوه المصرية علاقة حميمة لا تفتُر حرارتها، فيظل يرسمها ويستجلى نفوس أصحابها فوق سطوح لوحاته بلا كلل أو ملل، مشدودا إليهابخيوط شفافة، يستشف خلجاتها العميقة باحثا عن نقطة التصالح النفسى والصفاء النورانى فى أغوار كهوفها الدفينة حتى تشع بمكنونها.
لم يخبرنى الفنان وجيه يسٌَى عن دافعه لهذا الشغف برسم الوجوه، لكننى استقرأته من بين شذرات خاطفة من تعبيراته النادرة ؛ وهو اغترابه الطويل عن أرض الوطن لعشرات السنين لظروف عمله البعيد كل البعد عن الفن فى كندا منذ شبابه المبكر، وافتقاده لمتعة الحياة اليومية بين شعبه..تلك المتعة المرتبطة بذكرياته الحميمة فى مصر على مدى العقود الثلاثة الأولى من عمره، إذ فرضت عليه الظروف أن ينقطع سنوات مديدة عن زيارتها، لكن صورها وذكرياتها ظلت بأعماقه لا تفارق وجدانه، فى غربته التى أصبحت إجبارية بمرور الزمن وتعقيدات مطالب الحياة، لهذا عقد العزم منذ سنوات قليلة على أن يقتلع نفسه من محل إقامته بكندا ويأتى إلى مصر ويشحن بطارية مشاعره القديمة فيها لعدة شهور كل عام، كى يملأ عينيه وقلبه بناسها وملامحها، لا يفرق بين أصدقائه ومحبيه وبين رموز الطرب والأدب والوطن، وبين الوجوه العابرة فى الحياة، فكأنها “ماء المحاياة” لوجدانه ، يتغذى به ويعيش عليه فى غربته حين يعود إلى منفاه الاختيارى ويواصل انغماسه القدرى فى خضم صراعه اليومى من أجل استمرار مورد دخله وتلبية مطالب أسرته، بجانب ما يصطحبه معه فى ذاكرته عن مصر من أعمال فنية؛ بين أغانى الزمن القديم وأفلامه ومسرحياته التى شب وعيه عليها صبيا وشابا، وبين منحوتات مختار ولوحات محمود سعيد وراغب عيادوالجزار وندا، إلى أغانى سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، وبين أشعار عبد الصبور وجاهين وحداد ، وبين موسيقى السنباطى والقصابجى وزكريا أحمد وبليغ حمدى وغيرهم وغيرهم…يستعيدها ويتمثلها ويترنم بها أثناء الرسم ، ويستحضر الوطن من خلالها، ولا يكف عن رسم رموزها المحركة للمشاعر، مثل أم كلثوم التى تحولت فى إحدى لوحاته إلى طيف نورانى كالملاك.
الوجوه إذن صارت بمثابة صفحات يقرأ فيها ملامح الوطن، وصار الفن حافزا لأنسنة المشاعر بعد أن تشيٌَأت العلاقات الإنسانية فى الغربة، وهكذا صارت اللوحة طاقة للروح تنتشلها من عبودية الضرورة ، ولأنه لا يرسم بقصد التربح وإرضاء الزبون بالتالى، فإنه يمارس من خلال اللوحة حريته حتى الثمالة، بطريقة الدندنة اللحنية ببقع الألوان التى تتناثر من ذؤابة فرشاته برشاقة العازف على العود أو الكمان، بأسلوب أقرب إلى المدرسة التأثيرية، مستخدما الألوان المائية فى معظم الأحيان، وبرغم حرصه على اقتناص الملامح الواقعية لشخصياته، فإنه لا يجعل ذلك هدفه الأول، بل يبحث أساسا عن الحالة المزاجية للجالس أمامه، وعن كيفية جعل صفحة وجهه مسرحا تتراقص فوقه بقع الضوء والألوان والظلال كلوحة الفسيفساء التى يتقافز من خلال جزيئاتها الخزفية المزججة وميض النور إذ يشع ويتذبذب نابعا من الشكل المرسوم أكثر مما يأتى من خارجه، فتسرى فيه الحيوية كما تسرى فيه الدماء،.
وكلما اختزل الفنان عدد اللمسات وزادت كل لمسة عرضا أو طولا فوق السطح، أشعت الإضاءة والحيوية والوميض المتقطع من بين ثغرات النسيج الأبيض للقماش أو الورق، وبزغت الروح الدفينة فى أعماق الشخص أو العازف أو الجسم المرسوم ، وأصبح اكتمال اللوحة يقاس عنده بقلة تفاصيلها ولمساتها وليس بكثرتها وكثافتها.
غير أن هذا لا يعنى أن وجيه تخصص فى رسم البورتريه رغم تميزه اللافت فيه، بل إنه يمارس هواية رسم الصورة الشخصية على هامش اهتمامه برسم اللوحات الضخمة أو التكوينات الموضوعية، وأغلبها يتراوح بين لوحات للعازفين على الآلات الموسيقية المختلفة، وصولا إلى مجاميع الأوركسترا ومجاميع راقصات الباليه كالفراشات والزهور، وبين المناظر الطبيعية المستوحاة من كندا، وبين وقفات الشدو والطرب والرقص الشرقى، وبين مشاهد القوة العاتية لثيران مزرعة قريبة من بيته فى كندا..
وقد يبدو فى ذلك تناقض شديد بين ما تعكسه الموسيقى من رقة وطرب وشجن، ومن عذوبة وانسيابية تنبعان من عقل منظم، وبين ما تعكسه قوة الثور من خشونة وغشومة واندفاع أهوج بلا عقل، غير أن مسألة “الموضوع” فى اللوحة لا تعنى بالنسبة لوجيه إلا منطلقا لطاقة تعبيرية جياشة من نوع معين أو آخر ؛ فحالة الموسيقى بما تعكسه من نعومة وانسيابية وحلم مسترسل أحيانا ، أو من احتشاد متوتر بالأنغام الصاخبة أحيانا أخرى، والتى تشارك فيها أشكال الآلات الوترية والنحاسية والطبول بإيقاعاتها الحركية كأشكال خرافية تعادل حالة الجيشان الصوتى والأصداء النغمية، وتجسيد هذه الآلات كأشباح تلعب أدوارا أسطورية، كل هذا تقابله طاقة اندفاع القوة فى حركة الثور الأسود بقرنيه الهلاليين المدببين كحربتين وهو يندفع نحوك، أو حركة كتلتين قاتمتين فى حالة مواجهة مليئة بالتربص والتوقع لصراع الجبابرة، فى مشهد ملحمى للقوة العمياء، وسط أجواء كونية تحمل النذير ببروق ورعود. وقد يحاول كل مشاهد للوحة ترجمتها إلى حالات أخرى مشابهة للقوة الغاشمة ، خاصة وأن الفنان لا يقوم بتجسيد تفاصيل واقعية لحركة الثور، بل يجعله يبدو ككتلة غامضة بلا تفاصيل، فى جو من العتمة والضبابية ناثرا بقع الألوان فى أنحاء اللوحة، ويختلف ذلك عن الطاقة الروحية المنعكسة عن مناظره الطبيعية، إذ تغلب عليها حالة من الشاعرية والسكينة والتماهى بين عناصر الطبيعة المختلفة، من أشجار ومساحات خضراء وبيوت بيضاء ومياه زرقاء وكائنات عضوية، وتتراوح الطاقة الروحية المنعكسة عن المناظر الطبيعية بين الإشراق والوداعة والرهبة والإثارة، توقعا لوقوع حدث كونى.
ويستخدم الفنان فى ذلك اسلوبا تعبيريا أكثر درامية مما يستخدمه فى لوحات البورتريه او فى لوحات الثيران، باختزال التفاصيل وتبسيط الكتل والأجرام إلى أقصى الحدود. وكذلك فى الانتقال من شدة القتامة إلى نصاعة الضوء واللون فى إشعاع مجهول المصدر، أو باستخدام ألوان لا تعنى وصف شىء بعينه كصورة واقعية، بل تعنى إيجاد المفارقة أو الصفعة من ألوان أخرى، سعيا لتفجيرالسطح بصريا ودراميا، لهذا فإن أعماله يصعب تصنيفها تصنيفا أكاديميا (مدرسيا)، فهى تقع فى المناطق المراوغة بين مدارس التأثيرية والتعبيرية والحوشية والتجريدية والتكعيبية.
من هذا كله نجد أن وجيه يسى لا يقصد أن تنتمى لوحاته إلى مدرسة فنية معينة ولا أن تحمل رسالة معينة إلى المشاهدين، فرسائله يرسلها إلى نفسه قبل أى شخص آخر، يستمتع بها ويطرب، او يطل من خلالها إلى داخل أعماقه، أو يستكشف شيئا لا يعرف حقيقته، وقد يتولد المعنى لديه خلال عملية الرسم أو بعد اكتماله ويكون هو كفنان أول من يفاجأ به، لكنه يترك لكل متلقٍ حرية استقبال الطاقة المنبعثة من اللوحة أو تأويل موضوعها ودلالتها تبعا لحالته ومزاجه وفكره، وذلك بعيدا عن رأيه ومشاعره الذاتية كمبدع للوحة، فيكون المتلقى بذلك شريكا فى إيجاد مضمون لها لا مجرد متلقٍ سلبى.
وربما كان من أسباب توفيقه إلى تحقيق ذلك، أنه دخل عالم الفن من باب الهواية والشغف والعصامية لا من باب الدراسة الأكاديمية والصرامة التخصصية، فكان منذ البداية كنحلة حرة تتنقل بين البساتين تمتص رحيقها كما تشاء وتفرزه عسلا بنكهة كل بستان، أو كطائر طليق يحلق بين المدارس والاتجاهات والأساليب ويستوعبها جيدا، ويختار منها فى النهاية ما يشبعه ويوافق مزاجه، فكان أخيرا – بعد مشوار شاق من التجربة والخبرة – هو نفسه..لا أكثر ولا أقل.




