وداعا عزالدين نجيب .. ستون عاما من الابداع

عن عمر يناهز 83عاما رحل الفنان الناقد عز الدين نجيب ..بعد رحلة معاناه مع المرض ..لكن مايعزينا أنه ترك بصمة كبيرة تمثل ستين عاما من الابداع من الصورة والكلمة: التصوير الزيتي والقصة القصيرة والنقد التشكيلى.
..وفوق كل ذلك مارس العمل الجماهيرى الذى توحد لديه.. مع الابداع بغية الاتصال والتاثير.. ومع هذا التراكم من التعبير والتشكيل ..ظلت لوحة التصوير لديه :المرفا والسكن بلغته التى لاتحتاج الى توقيع ..فيها الشكل والمعنى.. وفيها النغم واللحن الجهير ينساب فى تاملات بصرية .. تغترف من المنابع المصرية للجمال ..من سحر المكان الى تواصل الازمنة بطول التاريخ .
العيش والحلم
كان عز الدين نجيب طوال رحلته الإبداعية الطويلة .. بعد تخرجه من الفنون الجميلة عام 1963قسم التصوير” فى نفس الدفعة مع الفنان الناقد محمود بقشيش ومحمد حجى أحد نجوم الفن الصحفى وفن الكتاب” ..يهفو الى “العيش والحلم ” بتعبير عنوان معرضه الذى أقيم عام 2018 ..بمعنى آخر يهفو إلى حياة أفضل تتحقق فيها احلام البشرية ..قال عنه من قبل .. الناقد محمد شفيق :”نحن أمام فنان شديد التفاعل مع أحداث مجتمعه ..ايقاع مشاعره ورؤيته.. هو ايقاع المتغيرات المستمرة التى تعترض حياة قومه وشعبه.. وكأنه الترمومتر الدقيق البالغ الحساسية.. الذى أشار إليه بيكاسو.. مهمته التقاط المتغيرات الداءمة التى تعترى جسم المجتمع المحيط به ..وقد انعكست فى اعماله ” ..وهذا يبدو جليا من عناوين معارضه التى من بينها “تجليات الحارة “حول روح الحارة فى قاهرة المعز ..
و”حوار الاطلا ل “بمايعنى العمارة التلقائية بأماكن من مصر..وعمالقة شالى تجسيد لقلعة شالى وماحولها بسيوة الجنة العذراء. .و”همس الحيطان” من البنايات التاريخية..ومعرضه الاستعادى الذى يعد اخر معارضه. .يمثل منتخبات من “ستون عاما من المقاومة والبعث “. ..
” العيش والحلم ” معرض تنوعت فيه الأعمال بمساحاتها.. وعمقها التعبيرى مابين واقعية الحياة .. واقعية بلاضفاف “على اسم “كتاب روجيه جارودى او رجاء بعد ان اعلن اسلامه.. استشهد به عز فى مقدمة معرضه ” ..تجسد ملحمة هؤلاء الذين يصنعون الحياة بالعمل و الامل .. وفى نفس الوقت تنفلت واقعيته التعبيرية خارجة من اطارها ..دون الخروج على هويتها المصرية ..والى الرمزية التى ميزت مساحة كبيرة من اعمالة طوال رحلته مع فضاء التصوير ..
تبوح بمعنى حيوية السطح .. فى التشكيل والايقاع والتعبير .
الحس الميتافيزيقى
من قبل قال عز :”كم من السنين رسمت الحصون والاطلال وكم من السنين رسممت الصخور والامواج ..اتسمع دبيب الحياة فى الجماد ودبيب الموت فى الحياة ..اليوم وسط اغتيال الحلم والبراءة وارتداد الاسئلة.. باسئلة مستحيلة ماعادت الحصون والقلاع ملاذا من الخراب والمتاهة” .
ومن هنا تنتمى اعماله فى مجملها للتصوير الميتافيزيقى ..الذى ارتبط فى الفن الحديث بالفنان الايطالى ديكريكو مع اختلاف اللمسة والاداء والروح الغربية والحس الشرقى ..حتى ان اعمال كلاهما تتصادم مع الاخرى ..رغم تلك الاجواء الميتافيزيقية التى تنساب هنا وهناك بلا قيود او حدود .
لقد اوجد ديكركو طريقة جديدة فى التعبير التشكيلى من خلالها وضع لمسة المستحيل على الاشكال والنظم الاكثر كلاسيكية ..على حد تعبير الشاعر ابو لينيير فقد ادخل صور الطبيعة والطبيعة الصامتة.. مع رسوم الابنية الشامخة والعقود العالية التى تكتنفها الظلال والميادين الواجمة الفسيحة .. مصبغا عليها جوا شاعريا يورث القلق والحيرة والوحشة ..ولقد جعل كل تلك الصور تنطق بماساة الفرد فى وجه المدينة الغربية الحديثة الصماء ..والتى تجرد حياته من المغزى وتشعره بعزلته وعبثية مصيره ..وقد جاءت اعمال عزمعاكسة لتلك الاجواء فهى اعمال ميتافيزيقية او كونية.. مسكونة بهذا الحس الشرقى الذى يخلخل سكونية العمارة الفطرية.. ويهز عناصر الطبيعة بالابتهالات الصوفية فى ترانيم واغنيات مرئية.. ففى اعماله عموما يبحث دائما عن الانسان فهو يمثل بالنسبة له المعنى ..وهو مسجل فى اثاره ليس بقوته المادية ولكن بملامح وجوده على الحياة .
عودة الإنسان
فى اعماله والتى تمثل الاحدث فى عالمه يقول عز الدين نجيب :” يعود الانسان بملامحه المادية الى اغلب اللوحات بعد ان غابت عن معارضى السابقة ..الا قليلا حتى الثمانينيات ..كنت خلالها استعيض عن هذه الملامح باستشعار انفاس هذا الانسان وهمساته بين الصخور والجدران ….اشعر اليوم بحنين قوى الى ان تلمس فرشاتى هذه الملامح الانسانية ..والى استدعاء صور واقعية عايشتها فى الماضى البعيد فاستعيد معها رحيق العيش فى اماكن منسية فى القرى والواحات والصحارى.. طالما بحثت فيها عن عبقرية المكان ..اليوم احاول فتح الصناديق المطوية لحياة الناس بهموم عيشتهم واحلامهم الصغيرة “.
بلاغة الرموز
وتبدو اعمال عز الدين نجيب الرمزية عموما اكثر بلاغة واكثر انطلاقا فى التعبير تاخذنا الى دنيا الحلم والخروج من اسر الحياة اليومية المعاشة رغم بهاء تكويناتها وغنائياتها اللونية وتنوع وثراء الايقاع ..فالرمز هنا مفتوح على كل التفسيرات والتاويلات مسكون بالدهشة والغموض.. وفى نفس الوقت يبدوفى بعض الاحيان اشبه بالهتاف الصامت كما فى لوحة “صهيل ” والتى يحفل فيها الفضاء التصويرى بثلاثة جياد من الابيض والاسود والبنى فى حركة واحدة وحالة من الصهيل على خلفية من الازرق الهادىء ومساحة قوسية فوقها الشمس معلقة فى الفضاء ..ولا يخفى هنا المعنى الرمزى لتلك الجياد الناطقة والتى تهفو الى مدن لم تطاها بشر وبقاع غير محدودة وزمن غير زماننا الصعب ..زمن الحلم وارتياد المجهول ..زمن الغزو والرحيل .
والفنان يؤكد فى اعماله على خصوصية المكان المصرى مع رمزية التعبير ..وليس اكثر اشراقا من “عرس السماء ” صور فيها خمس حوريات فى ثياب بيضاء سابحات فى الفضاء وفتى عارى يرنو اليهن ..يرنو الى السماء ..فى ايقاع ازرق واشراقة من النقاء ..وفى الاعلى جديلة طيفية تمتد بعرض اللوحة .
يقول:” ..اخيرا ابحث عن الارض والجذور رغم توالى الخطوب وتغير الاولويات.. واستولد الحلم من طين الارض وهمس الحيطان واحلق باجنحة الحب والحرية ” .
سحر الكلمة
اذا كان عز الدين نجيب قد قدم فى الابداع الادبى 4مجموعات قصصية :”عيش وملح و “”المثلث الفيروز ى”و “اغنية الدمية “و”مشهد من وراء السور “..ففى الحقيقة قدم العديد من الدراسات والبحوث والمقالات فى النقد التشكيلى ..بما يعد مكتبة ترتقى بالذوق والتذوق حافلة بالتنوع والثراء فى تاريخ الفن المصرى ..واعلام الفن التشكيلى مثل :”فجر التصوير المصرى الحديث ” والفن العالمى كما فى “موسوعة الفنون التشكيلية ” فى ثلاثة أجزاء ..و”عبد الغنى ابو العينين” و”جميل شفيق بين الحلم والأسطورة “و “محمود بقشيش ” مع رءاسته لتحرير “ذاكرة الفن التشكيلى “
وهى سلسلة كانت تصدر شهرية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ..استكملت مساحة كبيرة من القضايا والموضوعات والإعلام فى الفن التشكيلى والصورة البصرية .
تحية إلى روحه وفنه بعمق ماقدم من تنوع فى الابداع .
صلاح بيصار”نشر بصحيفة القاهرة الثلاثاء 26 سبتمبر 2023
مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »