الفنان المصرى وسؤال الهوية» لعز الدين نجيب.. التوثيق والرؤية النقدية

جريدة المصرى اليوم

لا يمكن اعتبار هذا الكتاب الجامع توثيقًا للحركة التشكيلية لمصر، بدءا من الرواد وانتهاء بالمحدثين، حيث نجد بعضا من الفنانين التشكيليين غير مذكورين في هذا الكتاب الذي ضم ما يقرب من مائة اسم، ذلك أن الكتاب الأشبه بالموسوعة يعتمد محورا أساسيا وهاما كما ينطلق من قضية مهمة، وهى قضية الهوية بين الانصياع للتيارات الغربية أو عدم الانصياع لها والحرص على التأكيد على الهوية، ولكن ليس بمنأى عن الاستفادة من تيارات الحداثة في الغرب، ومن ثم فإن هذا الكتاب الموسوعى جمع بين أكثر من ملمح وأصاب أكثر من هدف، فهو مكتوب بقلم ناقد تشكيلى وأديب وفنان تشكيلى، ومن ثم فقد جمع بين التوثيق والرؤية النقدية وفرز سؤال الحداثة والهوية.

وانطلاقا من هذا فقد أطلق الفنان والناقد عزالدين نجيب (الحائز على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام ٢٠١٤) هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: «الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية» الصادر عن جاليرى ضى، والذى يناقش نقديا مسيرة الحركة التشكيلية في ارتباطها بالهوية المصرية على امتداد قرن كامل، وذلك خلال افتتاح معرض استعادى لمشواره الفنى الممتد، تضمن ٢٣٠ لوحة بمختلف الخامات، وقد أقيم في ١٢ مارس الماضى وما زال مستمرا بقاعة ضى بالمهندسين. وجعل الفنان عنوانه (٦٠ عاما بين المقاومة والبعث)، فيما حمل كتابه عنوان (الفنان المصرى وسؤال الهوية.. بين الحداثة والتبعية)، وقامت بنشره في ٤٥٠ صفحة من القطع الكبير للمجلات مؤسسة أتيليه العرب للثقافة والفنون بالقاهرة، ومؤسسة الزاهدية للفنون بمدينة جدة.

أما عنوان الكتاب فهو يختزل القضية التي كرس لها المؤلف مشواره في النقد منذ السبعينيات، باحثا ومتقصيا ملامح المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية، التي تضرب بجذورها في البيئة والطبيعة والحضارات المصرية المتعاقبة والتراث الشعبى ومظاهر الحياة اليومية، وتمد فروعها نحو معطيات الفن العالمى، لتأخذ منه ما يقوى دعائم الهوية ولا يجعلها في ذات الوقت تابعة للثقافة الغربية، وبالرغم من قوة ووضوح الهوية في الفن المصرى الحديث منذ نشأة الحركة الفنية قبل قرن من الزمان، فإنها اليوم- حسبما يرى المؤلف- تبدو غائمة وشاحبة في ظل المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية، مع مظاهر الانفتاح على الغرب عبر تلك المتغيرات طوال العقود الخمسة الماضية منذ سبعينيات القرن الماضى، حيث تبدو فوق السطح مظاهر التبعية لمدارس واتجاهات الفن الغربى، حتى سيطرت على نسبة كبيرة من أعمال الفنانين ممن في أواسط العمر، وبلغت ذروتها في جيل الشباب.

يستعرض المؤلف في الفصول الأولى من الكتاب تجليات الهوية المصرية في أعمال جيل الرواد الأوائل، وكيف حققوا المعادلة الصعبة بين دراساتهم الأكاديمية على أيدى الفنانين الأجانب المقيمين في مصر، أو الأساتذة بمدرسة الفنون الجميلة منذ إنشائها عام ١٩٠٨، ثم في الأكاديميات الأوروبية التي أوفدوا إليها لاحقا منذ عشرينيات القرن الماضى بين روما وباريس ولندن ومدريد والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وبين معطيات الحضارة والثقافة والبيئة المصرية من ناحية أخرى، على خلفية الكفاح الوطنى من أجل الاستقلال الذي بلغ ذروته مع ثورة ١٩١٩، وانعكاس ذلك كله في أعمال ذلك الجيل: محمود مختار ومحمد ناجى ومحمود سعيد وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن وأحمد صبرى، ثم في أعمال جيل الوسط من أمثال أحمد عثمان ومنصور فرج وأنور عبدالمولى وسيف وأدهم وانلى وعزت مصطفى وحامد سعيد وحسين يوسف أمين ويوسف العفيفى، ثم جيل الثورة الفنية والسياسية في الأربعينيات والخمسينيات، عبر جماعات «الفن والحرية» و«الفن المعاصر» و«الفن الحديث» و«الفن والحياة»، وكان في طليعتها فرسان تلك الجماعات الثورية، من أمثال رمسيس يونان والتلمسانى وفؤاد كامل وعبدالهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع وحامد عبدالله وجمال السجينى وعزالدين حمودة ويوسف سيده وحامد عويس وسعد الخادم وعفت ناجى وجاذبية سرى وإنجى أفلاطون وتحية حليم وحسين بيكار وعبدالسلام الشريف وصلاح طاهر وراتب صديق وخميس شحاتة.. وعشرات آخرين على نفس الطريق، حقق كل منهم الحل الأمثل لتلك المعادلة الصعبة، فيما تعثر في ذلك قليلون غيرهم.

وتتبع المؤلف عبر فصول الكتاب أعمال الفنانين اللاحقين في عقد الستينيات حتى منتصف السبعينيات، وهى الفترة التي ازدهر فيها المشروع القومى الطموح لتحقيق الاستقلال، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، وبناء السد العالى، وإقامة الوحدة العربية، وتبنى قضايا التحرر الوطنى لشعوب العالم الثالث، كل ذلك على خلفية النهوض بالوعى الثقافى لمختلف الطبقات، واحتضان الفنون جميعا كركيزة لبناء الإنسان، وهو عماد مشروع النهضة، ويوضح المؤلف كيف انخرط الفنانون في خضم هذا المشروع القومى، إلا قلة اختاروا اتباع مدارس الفن والثقافة الغربية، أما الذين اختاروا الانخراط في ذلك المشروع النهضوى، فقد نجحوا في ابتكار أساليب فنية جديدة تضارع الفن العالمى بما هضموه من مدارس الحداثة ومزجوه بخصائص الهوية المصرية، وكان لكل منهم مشروعه الإبداعى الخاص القائم على منظوره المتميز للحداثة، وكان واضحا أن أكثرهم يمتص رحيق إبداعه من تجليات المأثورات الشعبية ورموزها ودوالٌِها، ومن مشاهد الحياة الشعبية، ومن معطيات البيئة الاجتماعية والثقافية والمناخية من حولها.

وفى حقبتَىْ الستينيات والسبعينيات تصدرت المرأة الفنانة المشهد الإبداعى، وقد سبقت الإشارة إلى رائدات ذلك المشهد منهن، وجاء ذلك بدون تمييز عنصرى أو صراع بينهن وبين زملائهن الرجال، وقد انضمت إلى من سبقت الإشارة إلى هؤلاء الفنانين أسماء أخرى، مثل داوستاشى وصلاح عبدالكريم وعمر النجدى وسيد عبدالرسول ومحمد هجرس وطه حسين وصالح رضا ونبيل درويش ومحيى الدين حسين ومحمد مندور وعايدة عبدالكريم وحسن سليمان وآدم حنين وأبوالعينين والبهجورى وعمٌَار ورمزى مصطفى والزينى والنشار… إلخ.

وبقدر ما ظلت قضية الانتماء للهوية محسومة لدى هؤلاء جميعا، ثم لدى من لحق بهم في السبعينيات والثمانينيات، فقد التبست الرؤية وغامت أبعادها عند الكثيرين بعدهم مع أواخر الثمانينيات، مواكبة لإنشاء صالون الشباب السنوى تحت قيادة ثقافية جديدة ذات توجهات مختلفة، دعمتها الصيحة التي أطلقها أساتذة موالون لها تحرض الشباب قائلة: «مزيد من الجنون، مزيد من الركل لكل ما هو قديم!!»، وذلك انسياقا وراء اتجاهات العولمة الثقافية المصاحبة للعولمة الاقتصادية والسياسية، في ظل انفراد القطب الأمريكى الأوحد بقيادة النظام العالمى بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، وأدى ذلك إلى حالة استقطاب ثقافى حاد في المجتمع المصرى.. فمن ناحية طفت فوق السطح نخبة اجتماعية أفرزتها سياسة الانفتاح الاقتصادى، تنظر إلى الواقع الاجتماعى نظرة فوقية متعالية، ولا تبالى بالنهوض الثقافى، ومن ناحية أخرى أصبحت هناك قاعدة عريضة من المجتمع تعيش في قطيعة كاملة مع الثقافة والمثقفين ومع الإبداع والمبدعين، مكتفية بفنونها الشعبية المتوارثة أو بما تبتكره من فنون شعبوية، وسيطرت على نسبة غالبة من الشعب تيارات ظلامية تحرم الفنون، حتى اختفت كل الجسور بين هذه القاعدة وبين ساحات وقاعات الفنون الرسمية بفنونها المتعالية على الشعب، مما خلق عزلة ثقافية متبادلة يعيشها كل من النخبة والجماهير، بل خلق قطيعة مطلقة بينهما.

ويضيف المؤلف- رغم ذلك- فإن من كانوا شبابا في السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات ظلوا يحملون الجينات الوراثية للثقافة المعبرة عن الهوية، من أمثال الفنانين: الرزاز والمنذر وعبدالله وشيحا والتونى ورضا شحاتة وجميل شفيق وبقشيش وشديد وصبرى منصور وأحمد نبيل والفقى وسعد الدين والبدرى ودسوقى والطحان وشاهين وحجى وشاكر وفتحى أحمد وفتحى عفيفى والقماش ورزق الله وإيفلين وعبدالعزيز وسهير عثمان وسعد زغلول ورضا عبدالسلام وعبده سليم، وعشرات غيرهم لا يزالون يملأون فضاء الحركة الفنية بإبداعاتهم المروية بماء النيل، وقد بلغ عدد من تناولهم الكتاب ١٣٠ فنانا، ما رفع عدد صفحاته إلى ٤٥٠ صفحة، ويعتذر المؤلف عن عدم قدرة الكتاب عن احتواء فنانين آخرين تعكس أعمالهم سمات الهوية، آملا أن تلحق به أجزاء أخرى تغطى أعمال الباقين.

وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن هذا الجهد النقدى الضخم الذي قام به عزالدين نجيب كان ينبغى أن يكون مشروع دولة، بما يعنى أن يتفرغ لإنجازه فريق من النقاد والباحثين، وليس فردا واحدا مهما بلغت قدراته، ولكن يكفى أن يكون هذا الكتاب بمثابة حجر يُلقَى في البحيرة النقدية الراكدة، فيثير موجات متلاحقة توقظ الهوية من سباتها

مقالات اخري

دييغو ريفيرا (1886 – 1957)

   هذا الفنان بتكوينه الجسدى الكاريكاتيرى والمثير للسخرية..كان ساحر قلب حبيبته الفنانة الرقيقة فريدا كالهو التى لم يخلص لها قط رغم زواجه بها مرتين من

اقرأ المزيد »

يقولون إن العالم يحتاج إلى ثورة تقودها إمرأة.. جيد..لنحاول إذًا في ثورة صغيرة تمزيق الشر ونثره على الطرقات يتسول الخير من أربابه لعله ينجو.. لننثر

اقرأ المزيد »